فصل: فَصْل: (فِي أَحْكَامِ عَقْدِ الْجِزْيَةِ)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مغني المحتاج إلى معرفة معاني ألفاظ المنهاج ***


فَصْل‏:‏ ‏[‏فِي أَحْكَامِ عَقْدِ الْجِزْيَةِ‏]‏

المتن‏:‏

يُؤْخَذُ مِنْ مَالِ مَنْ لَا جِزْيَةَ عَلَيْهِ‏.‏ يَلْزَمُنَا الْكَفُّ عَنْهُمْ

الشَّرْحُ‏:‏

‏[‏ فَصْلٌ ‏]‏ فِي أَحْكَامِ عَقْدِ الْجِزْيَةِ الزَّائِدَةِ عَلَى مَا مَرَّ ‏(‏يَلْزَمُنَا‏)‏ بَعْدَ عَقْدِ الذِّمَّةِ الصَّحِيحِ لِلْكُفَّارِ ‏(‏الْكَفُّ عَنْهُمْ‏)‏ نَفْسًا وَمَالًا، وَخَلَاصُ مَنْ أُسِرَ مِنْهُمْ، وَاسْتِرْجَاعُ مَا أُخِذَ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَرَّحَ بِهِ فِي الرَّوْضَةِ وَأَصْلِهَا، وَالْكَفُّ عَنْ خُمُورِهِمْ وَخَنَازِيرِهِمْ وَسَائِرِ مَا يُقَرُّونَ عَلَيْهِ مَا لَمْ يُظْهِرُوهُ بَيْنَنَا؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى غَيَّا قِتَالَهُمْ بِالْإِسْلَامِ أَوْ بِبَذْلِ الْجِزْيَةِ، وَالْإِسْلَامُ يَعْصِمُ النَّفْسَ وَالْمَالَ وَمَا أُلْحِقَ بِهِ فَكَذَا الْجِزْيَةُ‏.‏ وَرَوَى أَبُو دَاوُد خَبَرَ ‏{‏أَلَا مَنْ ظَلَمَ مُعَاهِدًا، أَوْ انْتَقَصَهُ، أَوْ كَلَّفَهُ فَوْقَ طَاقَتِهِ، أَوْ أَخَذَ مِنْهُ شَيْئًا بِغَيْرِ طِيبِ نَفْسٍ فَأَنَا حَجِيجُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ‏}‏‏.‏

المتن‏:‏

وَضَمَانُ مَا نُتْلِفُهُ عَلَيْهِمْ نَفْسًا وَمَالًا وَدَفْعُ أَهْلِ الْحَرْبِ عَنْهُمْ وَقِيلَ إنْ انْفَرَدُوا بِبَلَدٍ لَمْ يَلْزَمْنَا الدَّفْعُ‏.‏

الشَّرْحُ‏:‏

‏(‏وَ‏)‏ يَلْزَمُنَا ‏(‏ضَمَانُ مَا نُتْلِفُهُ عَلَيْهِمْ نَفْسًا وَمَالًا‏)‏ أَيْ يَضْمَنُهُ الْمُتْلِفُ مِنَّا كَمَا يَضْمَنُ مَالَ الْمُسْلِمِ وَنَفْسَهُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ فَائِدَةُ عَقْدِ الذِّمَّةِ، وَاحْتُرِزَ بِالْمَالِ عَنْ الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ، فَمَنْ أَتْلَفَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ سَوَاءٌ أَظْهَرُوهُ أَمْ لَا، لَكِنْ مَنْ غَصَبَهُ يَجِبُ عَلَيْهِ رَدُّهُ عَلَيْهِمْ وَمُؤْنَةُ الرَّدِّ عَلَى الْغَاصِبِ وَيَعْصَى بِإِتْلَافِهَا إلَّا إنْ أَظْهَرُوهَا، وَتُرَاقُ خَمْرُ مُسْلِمٍ اشْتَرَاهَا مِنْهُمْ وَقَبَضَهَا وَلَا ثَمَنَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُمْ تَعَدَّوْا بِإِخْرَاجِهَا إلَيْهِ، وَلَوْ قَضَى الذِّمِّيُّ دَيْنَ مُسْلِمٍ كَانَ لَهُ عَلَيْهِ بِثَمَنِ خَمْرٍ أَوْ نَحْوِهِ حَرُمَ عَلَى الْمُسْلِمِ قَبُولُهُ إنْ عَلِمَ أَنَّهُ ثَمَنُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ حَرَامٌ فِي عَقِيدَتِهِ، وَإِلَّا لَزِمَهُ الْقَبُولُ، وَمَا اقْتَضَاهُ كَلَامُ الرَّوْضَةِ فِي نِكَاحِ الْمُشْرِكِ مِنْ أَنَّهُ لَا يَحْرُمُ قَبُولُهُ مَعَ الْعِلْمِ مَرْدُودٌ‏.‏

تَنْبِيهٌ‏:‏

قَوْلُهُ نَفْسًا وَمَالًا مَنْصُوبَانِ عَلَى التَّمْيِيزِ مِنْ الْكَفِّ وَحُذِفَا مِنْ قَوْلِهِ وَضَمَانُ مَا نُتْلِفُهُ لِدَلَالَةِ مَا سَبَقَ، وَالتَّمْيِيزُ إذَا عُلِمَ جَازَ حَذْفُهُ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْكَفُّ وَضَمَانُ مِنْ تَنَازُعِ الْعَامِلَيْنِ؛ لِأَنَّكَ إنْ أَعْمَلْتَ الْأَوَّلَ مِنْهُمَا أَضْمَرْتَ فِي الثَّانِي فَيَلْزَمُ وُقُوعُ التَّمْيِيزِ مَعْرِفَةً، وَإِنْ أَعْمَلْتَ الثَّانِي لَزِمَ الْحَذْفُ مِنْ الْأَوَّلِ لِدَلَالَةِ الثَّانِي وَهُوَ ضَعِيفٌ وَيَلْزَمُنَا اسْتِنْقَاذُ مَنْ أُسِرَ مِنْهُمْ وَاسْتِرْجَاعُ مَا أُخِذَ مِنْ أَمْوَالِهِمْ ‏(‏وَ‏)‏ يَلْزَمُنَا ‏(‏دَفْعُ أَهْلِ الْحَرْبِ‏)‏ وَغَيْرِهِمْ ‏(‏عَنْهُمْ‏)‏ إذَا كَانُوا فِي بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ؛ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ الذَّبِّ عَنْ الدَّارِ، وَمَنْعِ الْكُفَّارِ مِنْ طُرُوقِهَا ‏(‏وَقِيلَ إنْ انْفَرَدُوا بِبَلَدٍ‏)‏ بِجِوَارِ دَارِ الْإِسْلَامِ كَمَا قَيَّدَهُ فِي الرَّوْضَةِ ‏(‏لَمْ يَلْزَمْنَا الدَّفْعُ‏)‏ عَنْهُمْ كَمَا لَا يَلْزَمُهُمْ الذَّبُّ عَنَّا عِنْدَ طُرُوقِ الْعَدُوِّ لَنَا، وَالْأَصَحُّ اللُّزُومُ إنْ أَمْكَنَ إلْحَاقًا لَهُمْ بِأَهْلِ الْإِسْلَامِ فِي الْعِصْمَةِ وَالصِّيَانَةِ‏.‏ أَمَّا الْمُسْتَوْطِنُونَ بِدَارِ الْحَرْبِ إذْ بَذَلُوا الْجِزْيَةَ وَلَيْسَ مَعَهُمْ مُسْلِمٌ، فَلَا يَلْزَمُنَا الدَّفْعُ عَنْهُمْ جَزْمًا إلَّا إنْ شُرِطَ الذَّبُّ عَنْهُمْ هُنَاكَ فَيَلْزَمُنَا وَفَاءً بِالشَّرْطِ‏.‏ فَإِنْ لَمْ نَدْفَعْ عَنْهُمْ حَيْثُ لَزِمَنَا ذَلِكَ، فَلَا جِزْيَةَ لِمُدَّةِ عَدَمِ الدَّفْعِ‏.‏ فَإِنْ ظَفِرَ الْإِمَامُ مِمَّنْ أَغَارَ عَلَيْهِمْ وَأَخَذَ أَمْوَالَهُمْ رَدَّ عَلَيْهِمْ مَا وَجَدَ مِنْ أَمْوَالِهِمْ، وَلَا يَضْمَنُونَ مَا أَتْلَفُوهُ إنْ كَانُوا حَرْبِيِّينَ كَمَا لَوْ أَتْلَفُوا مَالَنَا‏.‏

المتن‏:‏

وَنَمْنَعُهُمْ إحْدَاثَ كَنِيسَةٍ فِي بَلَدٍ أَحْدَثْنَاهُ أَوْ أَسْلَمَ أَهْلُهُ عَلَيْهِ، وَمَا فُتِحَ عَنْوَةَ لَا يُحْدِثُونَهَا فِيهِ، وَلَا يُقَرُّونَ عَلَى كَنِيسَةٍ كَانَتْ فِيهِ فِي الْأَصَحِّ، أَوْ صُلْحًا بِشَرْطِ الْأَرْضِ لَنَا، وَشَرْطِ إسْكَانِهِمْ، وَإِبْقَاءِ الْكَنَائِسِ جَازَ، وَإِنْ أُطْلِقَ فَالْأَصَحُّ الْمَنْعُ، أَوْ لَهُمْ قُرِّرَتْ، وَلَهُمْ الْإِحْدَاثُ فِي الْأَصَحِّ‏.‏

الشَّرْحُ‏:‏

‏(‏وَنَمْنَعُهُمْ‏)‏ وُجُوبًا ‏(‏إحْدَاثَ كَنِيسَةٍ‏)‏ وَبَيْعَةٍ وَصَوْمَعَةٍ لِلرُّهْبَانِ، وَبَيْتِ نَارٍ لِلْمَجُوسِ ‏(‏فِي بَلَدٍ أَحْدَثْنَاهُ‏)‏ كَبَغْدَادَ وَالْكُوفَةِ وَالْبَصْرَةِ وَالْقَاهِرَةِ، لِمَا رَوَاهُ أَحْمَدُ بْنُ عَدِيٍّ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ‏:‏ ‏{‏لَا تُبْنَى كَنِيسَةٌ فِي الْإِسْلَامِ وَلَا يُجَدَّدُ مَا خَرَبَ مِنْهَا‏}‏ وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ لَمَّا صَالَحَ نَصَارَى الشَّامِ كَتَبَ إلَيْهِمْ كِتَابًا ‏"‏ أَنَّهُمْ لَا يَبْنُونَ فِي بِلَادِهِمْ وَلَا فِيمَا حَوْلَهَا دَيْرًا وَلَا كَنِيسَةً وَلَا صَوْمَعَةَ رَاهِبٍ ‏"‏ وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا وَلَا مُخَالِفَ لَهُمَا مِنْ الصَّحَابَةِ‏.‏ وَلِأَنَّ إحْدَاثَ ذَلِكَ مَعْصِيَةٌ، فَلَا يَجُوزُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ‏.‏ فَإِنْ بَنَوْا ذَلِكَ هُدِمَ، سَوَاءٌ أَشُرِطَ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ أَمْ لَا، وَلَوْ عَاقِدِهِمْ الْإِمَامُ عَلَى التَّمَكُّنِ مِنْ إحْدَاثِهَا فَالْعَقْدُ بَاطِلٌ ‏(‏أَوْ‏)‏ بَلَدٍ ‏(‏أَسْلَمَ أَهْلُهُ عَلَيْهِ‏)‏ كَالْمَدِينَةِ الشَّرِيفَةِ وَالْيَمَنِ، فَإِنَّهُمْ يُمْنَعُونَ أَيْضًا مِمَّا ذُكِرَ لِمَا مَرَّ‏.‏

تَنْبِيهٌ‏:‏

لَوْ وُجِدَتْ كَنَائِسُ أَوْ نَحْوُهَا فِيمَا ذُكِرَ وَجُهِلَ أَصْلُهَا بَقِيَتْ لِاحْتِمَالِ أَنَّهَا كَانَتْ فِي قَرْيَةٍ أَوْ بَرِّيَّةٍ فَاتَّصَلَ بِهَا عُمْرَانٌ مَا أَحْدَثُ مِنَّا، بِخِلَافِ مَا لَوْ عُلِمَ إحْدَاثُ شَيْءٍ مِنْهَا بَعْدَ بِنَائِهَا فَإِنَّهُ يَلْزَمُنَا هَدْمُهُ‏.‏ هَذَا إذَا بُنِيَ ذَلِكَ لِلتَّعَبُّدِ‏.‏ فَإِنْ بُنِيَ لِنُزُولِ الْمَارَّةِ نُظِرَ، إنْ كَانَ لِعُمُومِ النَّاسِ جَازَ، وَإِنْ كَانَ لِأَهْلِ الذِّمَّةِ فَقَطْ فَوَجْهَانِ‏:‏ جَزَمَ صَاحِبُ الشَّامِلِ مِنْهُمَا بِالْجَوَازِ ‏(‏وَمَا‏)‏ أَيْ وَالْبَلَدُ الَّذِي ‏(‏فُتِحَ عَنْوَةَ‏)‏ كَمِصْرِ وَأَصْبَهَانَ وَبِلَادِ الْمَغْرِبِ ‏(‏لَا يُحْدِثُونَهَا فِيهِ‏)‏؛ لِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ مَلَكُوهَا بِالِاسْتِيلَاءِ فَيُمْتَنَعُ جَعْلُهَا كَنِيسَةً، وَكَمَا لَا يَجُوزُ إحْدَاثُهَا لَا يَجُوزُ إعَادَتُهَا إذَا انْهَدَمَتْ ‏(‏وَلَا يُقَرُّونَ عَلَى كَنِيسَةٍ كَانَتْ فِيهِ فِي الْأَصَحِّ‏)‏ لِمَا مَرَّ، وَعَلَى هَذَا فَلَا يَجُوزُ تَقْرِيرُ الْكَنَائِسِ بِمِصْرَ‏.‏ كَمَا قَالَهُ الزَّرْكَشِيُّ؛ لِأَنَّهَا فُتِحَتْ عَنْوَةً وَلَا بِالْعِرَاقِ، وَالثَّانِي يُقَرُّونَ؛ لِأَنَّ الْمَصْلَحَةَ قَدْ تَقْتَضِي ذَلِكَ، وَمَحَلُّ الْخِلَافِ فِي الْقَائِمَةِ عِنْدَ الْفَتْحِ‏.‏ أَمَّا الْمُنْهَدِمَةُ أَوْ الَّتِي هَدَمَهَا الْمُسْلِمُونَ فَلَا يُقَرُّونَ عَلَيْهَا قَطْعًا‏.‏

تَنْبِيهٌ‏:‏

لَوْ اسْتَوْلَى أَهْلُ حَرْبٍ عَلَى بَلْدَةِ أَهْلِ ذِمَّةٍ وَفِيهَا كَنَائِسُهُمْ‏.‏ ثُمَّ اسْتَعَدْنَاهَا مِنْهُمْ عَنْوَةً أُجْرِيَ عَلَيْهَا حُكْمُ مَا كَانَتْ عَلَيْهِ قَبْلَ اسْتِيلَاءِ أَهْلِ الْحَرْبِ، قَالَهُ صَاحِبُ الْوَافِي‏:‏ وَاسْتَظْهَرَهُ الزَّرْكَشِيُّ ‏(‏أَوْ‏)‏ فُتِحَ الْبَلَدُ ‏(‏صُلْحًا‏)‏ كَبَيْتِ الْمَقْدِسِ ‏(‏بِشَرْطِ‏)‏ كَوْنِ ‏(‏الْأَرْضِ لَنَا وَشَرْطِ إسْكَانِهِمْ‏)‏ فِيهَا بِخَرَاجٍ ‏(‏وَإِبْقَاءِ الْكَنَائِسِ‏)‏ مَثَلًا لَهُمْ ‏(‏جَازَ‏)‏؛ لِأَنَّهُ إذَا جَازَ الصُّلْحُ عَلَى أَنَّ كُلَّ الْبَلَدِ لَهُمْ فَعَلَى بَعْضِهِ أَوْلَى‏.‏

تَنْبِيهٌ‏:‏

قَوْلُهُ‏:‏ ‏"‏ وَإِبْقَاءِ الْكَنَائِسِ ‏"‏ يَقْتَضِي مَنْعَهُمْ مِنْ إحْدَاثِهَا، وَبِهِ صَرَّحَ الْمَاوَرْدِيُّ‏:‏ وَاَلَّذِي فِي الشَّرْحِ وَالرَّوْضَةِ عَنْ الرُّويَانِيِّ وَغَيْرِهِ أَنَّهُمْ إذَا صُولِحُوا عَلَى إحْدَاثِهَا جَازَ أَيْضًا وَلَمْ يَذْكُرَا خِلَافَهُ‏.‏ قَالَ الزَّرْكَشِيُّ‏:‏ وَهُوَ مَحْمُولٌ مَا إذَا دَعَتْ إلَيْهِ ضَرُورَةٌ وَإِلَّا فَلَا وَجْهَ لَهُ ا هـ‏.‏

وَمُقْتَضَى التَّعْلِيلِ الْجَوَازُ مُطْلَقًا وَهُوَ الظَّاهِرُ، وَالتَّعْبِيرُ بِالْجَوَازِ الْمُرَادُ بِهِ عَدَمُ الْمَنْعِ، إذْ الْجَوَازُ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ وَلَمْ يَرِدْ الشَّرْعُ بِجَوَازِ ذَلِكَ، نَبَّهَ عَلَيْهِ السُّبْكِيُّ ‏(‏وَإِنْ‏)‏ فُتِحَ الْبَلَدُ صُلْحًا بِشَرْطِ الْأَرْضِ لَنَا وَ ‏(‏أُطْلِقَ‏)‏ الصُّلْحُ فَلَمْ يَذْكُرْ فِيهِ إبْقَاءَ الْكَنَائِسِ وَلَا عَدَمَهُ ‏(‏فَالْأَصَحُّ الْمَنْعُ‏)‏ مِنْ إبْقَائِهَا فَيُهْدَمُ مَا فِيهَا مِنْ الْكَنَائِسِ؛ لِأَنَّ إطْلَاقَ اللَّفْظِ يَقْتَضِي ضَرُورَةَ جَمِيعِ الْبَلَدِ لَنَا، وَالثَّانِي لَا، وَهِيَ مُسْتَثْنَاةٌ بِقَرِينَةِ الْحَالِ لِحَاجَتِهِمْ إلَيْهَا فِي عِبَادَتِهِمْ‏.‏

فَائِدَةٌ‏:‏

قَالَ الشَّيْخُ عِزُّ الدِّينِ‏:‏ لَا يَجُوزُ لِلْمُسْلِمِ دُخُولُ كَنَائِسِ أَهْلِ الذِّمَّةِ إلَّا بِإِذْنِهِمْ؛ لِأَنَّهُمْ يَكْرَهُونَ دُخُولَهُمْ إلَيْهَا، وَمُقْتَضَى ذَلِكَ الْجَوَازُ بِالْإِذْنِ وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى مَا إذَا لَمْ تَكُنْ فِيهَا صُورَةٌ‏.‏ فَإِنْ كَانَ وَهِيَ لَا تَنْفَكُّ عَنْ ذَلِكَ حَرُمَ هَذَا إذَا كَانَتْ مِمَّا يُقَرُّونَ عَلَيْهَا وَإِلَّا جَازَ دُخُولُهَا بِغَيْرِ إذْنِهِمْ؛ لِأَنَّهَا وَاجِبَةُ الْإِزَالَةِ، وَغَالِبُ كَنَائِسِهِمْ الْآنَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ ‏(‏أَوْ‏)‏ فُتِحَ صُلْحًا بِشَرْطِ الْأَرْضِ ‏(‏لَهُمْ‏)‏ وَيُؤَدُّونَ خَرَاجَهَا ‏(‏قُرِّرَتْ‏)‏ كَنَائِسُهُمْ؛ لِأَنَّهَا مِلْكُهُمْ ‏(‏وَلَهُمْ الْإِحْدَاثُ فِي الْأَصَحِّ‏)‏؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ وَالدَّارَ لَهُمْ فَيَتَصَرَّفُونَ فِيهَا كَيْفَ شَاءُوا، وَالثَّانِي الْمَنْعُ؛ لِأَنَّ الْبَلَدَ تَحْتَ حُكْمِ الْإِسْلَامِ، وَعَلَى الْأَوَّلِ لَا يُمْنَعُونَ مِنْ إظْهَارِ شِعَارِهِمْ كَخَمْرٍ وَخِنْزِيرٍ، وَأَعْيَادِهِمْ كَضَرْبِ نَاقُوسِهِمْ، وَيُمْنَعُونَ مِنْ إيوَاءِ الْجَاسُوسِ وَتَبْلِيغِ الْأَخْبَارِ وَسَائِرِ مَا نَتَضَرَّرُ بِهِ فِي دِيَارِهِمْ‏.‏

تَنْبِيهٌ‏:‏

حَيْثُ جَوَّزْنَا أَيْضًا الْكَنَائِسَ، فَلَا مَنَعَ مِنْ تَرْمِيمِهَا إذَا اسْتُهْدِمَتْ؛ لِأَنَّهَا مُبْقَاةٌ، وَهَلْ يَجِبُ إخْفَاءُ الْعِمَارَةِ‏؟‏ وَجْهَانِ‏:‏ أَصَحُّهُمَا لَا، وَلَا يُمْنَعُونَ مِنْ تَطْيِينِهَا مِنْ دَاخِلٍ وَخَارِجٍ، وَتَجُوزُ إعَادَةُ الْجُدْرَانِ السَّاقِطَةِ، وَإِذَا انْهَدَمَتْ الْكَنِيسَةُ الْمُبْقَاةُ، فَلَا يُمْنَعُونَ مِنْ إعَادَتِهَا عَلَى الْأَصَحِّ فِي الشَّرْحِ وَالرَّوْضَةِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِإِحْدَاثٍ، وَقَالَ السُّبْكِيُّ فِي كِتَابِ الْوَقْفِ‏:‏ وَلَا أَرَى الْفَتْوَى بِذَلِكَ‏.‏ فَإِنَّ فِي سَنَةِ ثَلَاثَ عَشْرَةَ أَوْ نَحْوِهَا رَأَيْتُ فِي مَنَامِي رَجُلًا مِنْ أَكَابِرِ الْعُلَمَاءِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ عَلَيْهِ عِمَامَةٌ زَرْقَاءُ، فَعِنْدَمَا طَلَعَ الْفَجْرُ مِنْ تِلْكَ اللَّيْلَةِ طَلَبَنِي ذَلِكَ الْعَالِمُ فَوَجَدْتُهُ فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ الَّذِي رَأَيْتُهُ فِيهِ، وَبِيَدِهِ كُرَّاسَةٌ فِي تَرْمِيمِ الْكَنَائِسِ، يُرِيدُ أَنْ يَنْتَصِرَ لِجَوَازِ التَّرْمِيمِ وَيَسْتَعِينَ بِي فَذَكَرْتُ وَاعْتَبَرْتُ‏.‏ قَالَ‏:‏ وَمَعْنَى قَوْلِنَا لَا نَمْنَعُهُمْ التَّرْمِيمَ، لَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّهُ جَائِزٌ، بَلْ هُوَ مِنْ جُمْلَةِ الْمَعَاصِي الَّتِي يُقَرُّونَ عَلَيْهَا كَشُرْبِ الْخَمْرِ، وَلَا نَقُولُ إنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ لَهُمْ، وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَأْذَنَ لَهُمْ وَلِيُّ الْأَمْرِ فِيهِ كَمَا يَأْذَنُ فِي الْأَشْيَاءِ الْجَائِزَةِ فِي الشَّرْعِ، وَإِنَّمَا مَعْنَى تَمْكِينِهِمْ التَّخْلِيَةُ وَعَدَمُ الْإِنْكَارِ كَمَا أَنَّا نُقِرُّهُمْ عَلَى التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ، وَلَوْ اشْتَرَوْهُمَا أَوْ اسْتَأْجَرُوا مَنْ يَكْتُبُهُمَا لَهُمْ لَمْ يُحْكَمْ بِصِحَّتِهِ، وَلَا يَحِلُّ لِلسُّلْطَانِ وَلَا لِلْقَاضِي أَنْ يَقُولَ لَهُمْ افْعَلُوا ذَلِكَ وَأَنْ يُعِينَهُمْ عَلَيْهِ، وَلَا لِأَحَدٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ لَأَنْ يَعْمَلَ لَهُمْ فِيهِ، وَلَوْ اسْتَأْجَرُوا لَهُ وَتَرَافَعُوا إلَيْنَا حَكَمْنَا بِبُطْلَانِ الْإِجَارَةِ‏.‏ قَالَ‏:‏ وَالْمُرَادُ بِالتَّرْمِيمِ الْإِعَادَةُ لِمَا تَهَدَّمَ مِنْهَا لَا بِآلَاتٍ جَدِيدَةٍ‏.‏ قَالَ‏:‏ وَهَذَا مَدْلُولُ لَفْظِ الْإِعَادَةِ وَالتَّرْمِيمِ، وَمَنْ ادَّعَى خِلَافَ ذَلِكَ فَهُوَ مُطَالَبٌ بِنَقْلٍ عَنْ أَحَدٍ مِنْ عُلَمَاءِ الشَّرِيعَةِ‏.‏ قَالَ‏:‏ وَبِالْجُمْلَةِ مَشْهُورُ مَذْهَبِنَا التَّمْكِينُ وَالْحَقُّ عِنْدِي خِلَافُهُ ا هـ‏.‏

وَاَلَّذِي قَالَهُ ابْنُ يُونُسَ فِي شَرْحِ الْوَجِيزِ، وَاقْتَضَى كَلَامُهُ الِاتِّفَاقَ عَلَيْهِ أَنَّهَا تُرَمَّمُ بِآلَاتٍ جَدِيدَةٍ، وَلَيْسَ لَهُمْ تَوْسِيعُهَا؛ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ فِي حُكْمِ كَنِيسَةٍ مُحْدَثَةٍ مُتَّصِلَةٍ بِالْأُولَى‏.‏

المتن‏:‏

وَيُمْنَعُونَ وُجُوبًا، وَقِيلَ نَدْبًا مِنْ رَفْعِ بِنَاءٍ عَلَى بِنَاءِ جَارٍ مُسْلِمٍ، وَالْأَصَحُّ الْمَنْعُ مِنْ الْمُسَاوَاةِ، وَأَنَّهُمْ لَوْ كَانُوا بِمَحَلَّةٍ مُنْفَصِلَةٍ لَمْ يُمْنَعُوا‏.‏

الشَّرْحُ‏:‏

‏(‏وَيُمْنَعُونَ‏)‏ أَيْ الذِّمِّيُّونَ ‏(‏وُجُوبًا وَقِيلَ نَدْبًا مِنْ رَفْعِ بِنَاءٍ‏)‏ لَهُمْ ‏(‏عَلَى بِنَاءِ جَارٍ‏)‏ لَهُمْ ‏(‏مُسْلِمٍ‏)‏ وَإِنْ لَمْ يُشْرَطْ عَلَيْهِمْ فِي الْعَقْدِ لِخَبَرِ الْبُخَارِيِّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ ‏{‏الْإِسْلَامُ يَعْلُو وَلَا يُعْلَى عَلَيْهِ‏}‏ وَلِيَتَمَيَّزَ الْبِنَاءَانِ، وَلِئَلَّا يُطَّلَعَ عَلَى عَوْرَاتِنَا، وَلَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ أَنْ يَرْضَى الْجَارُ بِذَلِكَ أَمْ لَا؛ لِأَنَّ الْمَنْعَ مِنْ ذَلِكَ لِحَقِّ الدِّينِ لَا لِمَحْضِ حَقِّ الْجَارِ، وَسَوَاءٌ أَكَانَ بِنَاءُ الْمُسْلِمِ مُعْتَدِلًا أَمْ فِي غَايَةِ الِانْخِفَاضِ‏.‏

تَنْبِيهٌ‏:‏

مَحَلُّ الْمَنْعِ كَمَا قَالَهُ الْبُلْقِينِيُّ‏:‏ إذَا كَانَ بِنَاءُ الْمُسْلِمِ مِمَّا يُعْتَادُ فِي السُّكْنَى، فَلَوْ كَانَ قَصِيرًا لَا يُعْتَادُ فِيهَا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَتِمَّ بِنَاؤُهُ أَوْ أَنَّهُ هَدَمَهُ إلَى أَنْ صَارَ كَذَلِكَ لَمْ يُمْنَعْ الذِّمِّيُّ مِنْ بِنَاءِ جِدَارِهِ عَلَى أَقَلِّ مَا يُعْتَادُ فِي السُّكْنَى، لِئَلَّا يَتَعَطَّلَ عَلَيْهِ حَقُّهَا الَّذِي عَطَّلَهُ الْمُسْلِمُ بِاخْتِيَارِهِ أَوْ تُعَطَّلُ عَلَيْهِ بِإِعْسَارِهِ، وَالْمُرَادُ بِالْجَارِ كَمَا قَالَ الْجُرْجَانِيِّ أَهْلُ مَحَلَّتِهِ دُونَ جَمِيعِ الْبَلَدِ ‏(‏وَالْأَصَحُّ الْمَنْعُ مِنْ الْمُسَاوَاةِ‏)‏ أَيْضًا بَيْنَ بِنَاءِ الْمُسْلِمِ وَالذِّمِّيِّ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏ضُرِبَتْ عَلَيْهِمْ الذِّلَّةُ‏}‏ فَيَنْبَغِي اسْتِحْقَارُهُمْ فِي جَمِيعِ الْأَشْيَاءِ؛ لِأَنَّ الْقَصْدَ تَمْيِيزُهُمْ عَنْ الْمُسْلِمِينَ فِي الْمَسَاكِنِ وَالْمُلَابِسِ وَالْمَرَاكِبِ، وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى عُلُوِّ الْإِسْلَامِ، وَلَا عُلُوَّ مَعَ الْمُسَاوَاةِ‏.‏

تَنْبِيهٌ‏:‏

فُهِمَ مِنْ قَوْلِهِ رَفْعُ تَصْوِيرٍ الْمَنْعُ بِالْإِحْدَاثِ، فَلَوْ مَلَكَ الذِّمِّيُّ دَارًا مُسَاوِيَةً أَوْ عَالِيَةً لَمْ يُكَلَّفْ هَدْمَهَا، وَكَذَا مَا بَنَوْهُ قَبْلَ أَنْ تُمْلَكَ بِلَادُهُمْ؛ لِأَنَّهُ وُضِعَ بِحَقٍّ، لَكِنْ يُمْنَعُ مِنْ طُلُوعِ سَطْحِهِ إلَّا بَعْدَ تَحْجِيرِهِ بِخِلَافِ الْمُسْلِمِ فَإِنَّهُ مَأْمُونٌ، وَيُمْنَعُ صِبْيَانُهُمْ مِنْ الْإِشْرَافِ عَلَى الْمُسْلِمِ بِخِلَافِ صِبْيَانِنَا، حَكَاهُ فِي الْكِفَايَةِ عَنْ الْمَاوَرْدِيُّ فَإِنْ انْهَدَمَ الْبِنَاءُ الْمَذْكُورُ امْتَنَعَ الْعُلُوُّ وَالْمُسَاوَاةُ، وَلَوْ رَفَعَ بِنَاءَهُ عَلَى الْمُسْلِمِ فَأَرَادَ الْمُسْلِمُ أَنْ يَرْفَعَ بِنَاءَهُ عَلَيْهِ لَمْ يُؤَخَّرْ هَدْمُ بِنَائِهِ بِذَلِكَ، فَلَوْ تَأَخَّرَ نَقَضَهُ حَتَّى رَفَعَ الْمُسْلِمُ بِنَاءَهُ عَلَيْهِ قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ‏:‏ الظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا يَسْقُطُ حَقُّ النَّقْضِ بِذَلِكَ، وَلَوْ رَفَعَهُ فَحَكَمَ الْحَاكِمُ بِنَقْضِهِ فَبَاعَهُ مِنْ مُسْلِمٍ فَهَلْ يَسْقُطُ حَقُّ النَّقْضِ، قَالَ ابْنُ الرِّفْعَةِ فِيمَا كَتَبَهُ عَلَى حَوَاشِي كِفَايَتِهِ‏:‏ يَظْهَرُ تَخْرِيجُهُ عَلَى الْوَجْهَيْنِ فِيمَا إذَا بَاعَ الْمُسْتَعِيرُ مَا بَنَاهُ عَلَى الْأَرْضِ الْمُسْتَعَارَةِ بَعْدَ رُجُوعِ الْمُعِيرِ‏.‏ وَكَذَا بَيْعُ الْبِنَاءِ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْإِجَارَةِ، فَإِنْ لَمْ يُجَوِّزُوهُ انْبَنَى عَلَى مَنْ اشْتَرَى فَصِيلًا بِشَرْطِ الْقَطْعِ، ثُمَّ اشْتَرَى الْأَرْضَ هَلْ يَلْزَمُهُ الْقَطْعُ‏؟‏ وَجْهَانِ‏.‏ ا هـ‏.‏

وَيُؤْخَذُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ لَا يَسْقُطُ النَّقْضُ بَعْدَ حُكْمِ الْحَاكِمِ بِنَقْضِهِ إذَا بَاعَهُ لِمُسْلِمٍ بِخِلَافِ مَا إذَا بَاعَهُ قَبْلَ الْحُكْمِ بِذَلِكَ‏.‏ قَالَ الْأَذْرَعِيُّ‏:‏ وَحَكَمْتُ أَيَّامَ قَضَائِي عَلَى يَهُودِيٍّ بِهَدْمِ مَا بَنَاهُ، وَبِالتَّنْقِيصِ عَنْ الْمُسَاوَاةِ لِجَارِهِ فَأَسْلَمَ فَأَقْرَرْته عَلَى بِنَائِهِ وَفِي نَفْسِي مِنْهُ شَيْءٌ، وَظَنِّي أَنِّي كُنْتُ قُلْتُ لَهُ إنْ أَسْلَمْتَ لَمْ أَهْدِمْهُ ا هـ‏.‏

بَلْ الْوَجْهُ عَدَمُ الْهَدْمِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا‏}‏ الْآيَةَ‏.‏ قَالَ الزَّرْكَشِيُّ‏:‏ وَلَوْ اسْتَأْجَرَ الذِّمِّيُّ دَارًا عَالِيَةً لَمْ يُمْنَعْ مِنْ سُكْنَاهَا بِلَا خِلَافٍ، قَالَهُ فِي الْمُرْشِدِ، وَهَلْ يَجْرِي مِثْلُهُ فِيمَا لَوْ مَلَكَ دَارًا لَهَا رَوْشَنٌ حَيْثُ قُلْنَا لَا يُشْرَعُ لَهُ رَوْشَنٌ‏:‏ أَيْ وَهُوَ الْأَصَحُّ، أَوْ لَا يَجْرِي؛ لِأَنَّ التَّعْلِيَةَ مِنْ حُقُوقِ الْمِلْكِ وَالرَّوْشَنُ لِحَقِّ الْإِسْلَامِ وَقَدْ زَالَ‏؟‏ فِيهِ نَظَرٌ ا هـ‏.‏

وَالْوَجْهُ الْأَوَّلُ، وَخَرَجَ بِقَوْلِ الْمُصَنِّفِ‏:‏ ‏"‏ الْمُسْلِمُ ‏"‏، رَفْعُ أَهْلِ الذِّمَّةِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ، فَإِنْ اخْتَلَفَتْ مِلَّتُهُمْ فَفِي مَنْعِ عُلُوِّ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ‏:‏ وَجْهَانِ فِي الْحَاوِي وَالْبَحْرِ، وَاَلَّذِي يَنْبَغِي الْقَطْعُ بِهِ الْجَوَازُ ‏(‏وَ‏)‏ الْأَصَحُّ، وَعَبَّرَ فِي الرَّوْضَةِ بِالصَّحِيحِ ‏(‏أَنَّهُمْ لَوْ كَانُوا بِمَحَلَّةٍ مُنْفَصِلَةٍ‏)‏ عَنْ الْمُسْلِمِينَ بِطَرَفٍ مِنْ الْبَلَدِ، مُنْقَطِعٍ عَنْ الْعِمَارَةِ ‏(‏لَمْ يُمْنَعُوا‏)‏ مِنْ رَفْعِ الْبِنَاءِ؛ لِأَنَّ الْمَمْنُوعَ الْمُطَاوَلَةُ، وَإِنَّمَا تَتَحَقَّقُ عِنْدَ وُجُودِ بِنَاءِ مُسْلِمٍ وَلِامْتِنَاعِ خَوْفِ الِاطِّلَاعِ عَلَى عَوْرَةِ الْمُسْلِمِينَ، وَالثَّانِي الْمَنْعُ؛ لِأَنَّهُ اسْتِعْلَاءٌ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ‏.‏ أَمَّا إذَا الْتَصَقَتْ دُورُ الْبَلَدِ مِنْ أَحَدِ جَوَانِبِهَا، فَإِنَّا نَعْتَبِرُ فِي ذَلِكَ الْجَانِبِ أَنْ لَا يَرْتَفِعَ فِيهِ بِنَاءُ أَهْلِ الذِّمَّةِ عَلَى بِنَاءِ مَنْ يُجَاوِرُهُمْ مِنْ الْمُسْلِمِينَ دُونَ بَقِيَّةِ الْجَوَانِبِ، إذْ لَا جَارَ لَهُمْ‏.‏

المتن‏:‏

وَيُمْنَعُ الذِّمِّيُّ رُكُوبَ خَيْلٍ لَا حَمِيرٍ، وَبِغَالٍ نَفِيسَةٍ، وَيَرْكَبُ بِإِكَافٍ وَرِكَابِ خَشَبٍ لَا حَدِيدٍ، وَلَا سَرْجٍ، وَيُلْجَأُ إلَى أَضْيَقِ الطُّرُقِ‏.‏

الشَّرْحُ‏:‏

‏(‏وَيُمْنَعُ الذِّمِّيُّ‏)‏ الذَّكَرُ الْمُكَلَّفُ فِي بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ ‏(‏رُكُوبَ خَيْلٍ‏)‏ لِقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ‏}‏ فَأَمَرَ أَوْلِيَاءَهُ بِإِعْدَادِهَا لِأَعْدَائِهِ - وَلِمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ عُرْوَةَ الْبَارِقِيِّ ‏{‏الْخَيْلُ مَعْقُودٌ فِي نَوَاصِيهَا الْخَيْرُ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ‏}‏‏.‏ وَعَنَى بِهِ الْغَنِيمَةَ وَهُمْ مَغْنُومُونَ‏.‏ وَرُوِيَ ‏{‏الْخَيْلُ ظُهُورُهَا عِزٌّ‏}‏ وَهُمْ ضُرِبَتْ عَلَيْهِمْ الذِّلَّةُ‏.‏ أَمَّا إذَا انْفَرَدُوا بِبَلْدَةٍ أَوْ قَرْيَةٍ فِي غَيْرِ دَارِنَا لَمْ يُمْنَعُوا فِي أَقْرَبِ الْوَجْهَيْنِ إلَى النَّصِّ كَمَا قَالَهُ الْأَذْرَعِيُّ، قَالَ‏:‏ وَلَوْ اسْتَعَنَّا بِهِمْ فِي حَرْبٍ حَيْثُ يَجُوزُ، فَالظَّاهِرُ تَمْكِينُهُمْ مِنْ رُكُوبِهَا زَمَنَ الْقِتَالِ‏.‏

تَنْبِيهٌ‏:‏

ظَاهِرُ كَلَامِهِ أَنَّهُ لَا فَرْقَ فِي مَنْعِ رُكُوبِ الْخَيْلِ بَيْنَ النَّفِيسِ مِنْهَا وَالْخَسِيسِ، وَهُوَ مَا عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ، لَكِنْ اسْتَثْنَى الْجُوَيْنِيُّ وَغَيْرُهُ مِنْهَا الْبَرَازِينُ الْخَسِيسَةَ، وَجَرَى عَلَيْهِ ابْنُ الْمُقْرِي ‏(‏لَا‏)‏ رُكُوبَ ‏(‏حَمِيرٍ‏)‏ قَطْعًا وَلَوْ رَفِيعَةَ الْقِيمَةِ ‏(‏وَ‏)‏ لَا ‏(‏بِغَالٍ نَفِيسَةٍ‏)‏ فِي الْأَصَحِّ؛ لِأَنَّهَا فِي نَفْسِهَا خَسِيسَةٌ، وَأَلْحَقَ الْإِمَامُ وَالْغَزَالِيُّ الْبِغَالَ النَّفِيسَةَ بِالْخَيْلِ، وَاخْتَارَهُ الْأَذْرَعِيُّ وَغَيْرُهُ، فَإِنَّ التَّجَمُّلَ وَالتَّعَاظُمَ بِرُكُوبِهَا أَكْثَرُ مِنْ كَثِيرٍ مِنْ الْخَيْلِ‏.‏ وَقَالَ الْبُلْقِينِيُّ‏:‏ لَا تَوَقُّفَ عِنْدَنَا فِي الْفَتْوَى بِذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَا يَرْكَبُهَا فِي هَذَا الزَّمَانِ فِي الْغَالِبِ إلَّا أَعْيَانُ النَّاسِ، أَوْ مَنْ يَتَشَبَّهُ بِهِمْ ا هـ‏.‏

وَيُمْنَع تَشَبُّهُهُمْ بِأَعْيَانِ النَّاسِ، أَوْ مَنْ يُتَشَبَّهُ بِهِمْ، وَقَوْلُ الْمُصَنِّفِ ‏(‏وَيَرْكَبُ بِإِكَافٍ‏)‏ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ‏:‏ أَيْ بَرْذَعَةٍ وَنَحْوِهَا، وَقَدْ مَرَّ الْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ فِي بَابِ الْإِجَارَةِ ‏(‏وَرِكَابِ خَشَبٍ لَا حَدِيدٍ‏)‏ وَنَحْوِهِ ‏(‏وَلَا سَرْجٍ‏)‏ اتِّبَاعَا لِكِتَابِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ، وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنْ يَتَمَيَّزُوا عَنْ الْمُسْلِمِينَ، وَلَهُ الرُّكُوبُ عَلَى سَرْجٍ مِنْ خَشَبٍ كَمَا نَقَلَهُ الزَّرْكَشِيُّ عَنْ الْمَاوَرْدِيُّ، وَيَرْكَبُ عَرْضًا بِأَنْ يَجْعَلَ رِجْلَيْهِ مِنْ جَانِبِ وَاحِدٍ وَظَهْرَهُ مِنْ جَانِبٍ آخَرَ‏.‏ قَالَ الرَّافِعِيُّ‏:‏ وَيَحْسُنُ أَنْ يُتَوَسَّطَ فَيُفَرَّقُ بَيْنَ أَنْ يَرْكَبَ إلَى مَسَافَةٍ قَرِيبَةٍ مِنْ الْبَلَدِ أَوْ إلَى بَعِيدَةٍ، وَهُوَ ظَاهِرٌ، وَيُمْنَعُ مِنْ حَمْلِ السِّلَاحِ وَمِنْ اللُّجُمِ الْمُزَيَّنَةِ بِالنَّقْدَيْنِ‏.‏ قَالَ الزَّرْكَشِيُّ‏:‏ وَلَعَلَّ مَنْعَهُ مِنْ حَمْلِ السِّلَاحِ مَحْمُولٌ عَلَى الْحَضَرِ وَنَحْوِهِ دُونَ الْأَسْفَارِ الْمَخُوفَةِ وَالطَّوِيلَةِ‏.‏ أَمَّا النِّسَاءُ وَالصِّبْيَانُ وَنَحْوُهُمَا فَلَا يُمْنَعُونَ مِنْ ذَلِكَ كَمَا لَا جِزْيَةَ عَلَيْهِمْ، حَكَاهُ فِي أَصْلِ الرَّوْضَةِ عَنْ ابْنِ كَجٍّ وَأَقَرَّهُ‏.‏ فَإِنْ قِيلَ‏:‏ قَدْ صَحَّحُوا أَنَّ النِّسَاءَ يُؤْمَرْنَ بِالْغِيَارِ وَالزُّنَّارِ وَالتَّمْيِيزِ فِي الْحَمَّامِ، فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ هُنَا كَذَلِكَ‏؟‏‏.‏ أُجِيبَ بِأَنَّ مَا هُنَاكَ كَالضَّرُورِيِّ لِحُصُولِ التَّمْيِيزِ بِهِ بِخِلَافِ مَا هُنَا‏.‏ قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ‏:‏ وَيَنْبَغِي مَنْعُهُمْ مِنْ خِدْمَةِ الْمُلُوكِ وَالْأُمَرَاءِ كَمَا يُمْنَعُونَ مِنْ رُكُوبِ الْخَيْلِ ‏(‏وَيُلْجَأُ‏)‏ الذِّمِّيُّ عِنْدَ زَحْمَةِ الْمُسْلِمِينَ ‏(‏إلَى أَضْيَقِ الطُّرُقِ‏)‏ بِحَيْثُ لَا يَقَعُ فِي وَهْدَةٍ وَلَا يَصْدِمُهُ جِدَارٌ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ ‏{‏لَا تَبْدَءُوا الْيَهُودَ وَلَا النَّصَارَى بِالسَّلَامِ، وَإِذَا لَقِيتُمْ أَحَدَهُمْ فِي طَرِيقٍ فَاضْطَرُّوهُمْ إلَى أَضْيَقِهِ‏}‏‏.‏ أَمَّا إذَا خَلَتْ الطَّرِيقُ عَنْ الزَّحْمَةِ فَلَا حَرَجَ، قَالَ فِي الْحَاوِي‏:‏ وَلَا يَمْشُونَ إلَّا أَفْرَادًا مُتَفَرِّقِينَ‏.‏

المتن‏:‏

وَلَا يُوَقَّرُونَ، وَلَا يُصَدَّرُونَ فِي مَجْلِسٍ‏.‏

الشَّرْحُ‏:‏

‏(‏وَلَا يُوَقَّرُونَ وَلَا يُصَدَّرُونَ فِي مَجْلِسٍ‏)‏ فِيهِ مُسْلِمٌ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَذَلَّهُمْ، وَالظَّاهِرُ كَمَا قَالَ الْأَذْرَعِيُّ تَحْرِيمُ ذَلِكَ‏.‏

فَائِدَةٌ‏:‏

دَخَلَ مُحَمَّدُ بْنُ الْوَلِيدِ الطُّرْطُوشِيُّ عَلَى الْمَلِكِ الْأَفْضَلِ بْنِ أَمِيرِ الْجُيُوشِ، وَكَانَ إلَى جَانِبِهِ رَجُلٌ نَصْرَانِيٌّ فَوَعَظَ الطُّرْطُوشِيُّ الْأَمِيرَ حَتَّى بَكَى، ثُمَّ أَنْشَدَ‏:‏ يَا ذَا الَّذِي طَاعَتُهُ قُرْبَةٌ وَحُبُّهُ مُفْتَرَضٌ وَاجِبُ إنَّ الَّذِي شَرُفْتَ مِنْ أَجَلِهِ - أَيْ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَزْعُمُ هَذَا - أَيْ النَّصْرَانِيُّ - أَنَّهُ كَاذِبُ فَأَقَامَهُ الْأَفْضَلُ مِنْ مَوْضِعِهِ، هَكَذَا كَانَتْ الْعُلَمَاءُ إذَا دَخَلَتْ عَلَى الْمُلُوكِ‏.‏ وَتَحْرُمُ مَوَدَّةُ الْكَافِرِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ‏}‏ فَإِنْ قِيلَ قَدْ مَرَّ فِي بَابِ الْوَلِيمَةِ أَنَّ مُخَالَطَتَهُ مَكْرُوهَةٌ‏؟‏‏.‏ أُجِيبَ بِأَنَّ الْمُخَالَطَةَ تَرْجِعُ إلَى الظَّاهِرِ، وَالْمَوَدَّةَ إلَى الْمِيلِ الْقَلْبِيِّ‏.‏ فَإِنْ قِيلَ‏:‏ الْمِيلُ الْقَلْبِيُّ لَا اخْتِيَارَ لِلشَّخْصِ فِيهِ‏؟‏‏.‏ أُجِيبَ بِإِمْكَانِ رَفْعِهِ بِقَطْعِ أَسْبَابِ الْمَوَدَّةِ الَّتِي يَنْشَأُ عَنْهَا مِيلُ الْقَلْبِ، كَمَا قِيلَ‏:‏ الْإِسَاءَةُ تَقْطَعُ عُرُوقَ الْمَحَبَّةِ‏.‏

المتن‏:‏

وَيُؤْمَرُ بِالْغِيَارِ وَالزُّنَّارِ فَوْقَ الثِّيَابِ‏.‏

الشَّرْحُ‏:‏

‏(‏وَيُؤْمَرُ‏)‏ الذِّمِّيُّ وَالذِّمِّيَّةُ الْمُكَلَّفَانِ فِي الْإِسْلَامِ وُجُوبًا ‏(‏بِالْغِيَارِ‏)‏ بِكَسْرِ الْمُعْجَمَةِ وَإِنْ لَمْ يُشْرَطْ عَلَيْهِمْ، وَهُوَ أَنْ يَخِيطَ كَلٌّ مِنْهُمَا بِمَوْضِعٍ لَا يُعْتَادُ الْخَيَّاطَةُ عَلَيْهِ، كَالْكَتِفِ عَلَى ثَوْبِهِ الظَّاهِرِ مَا يُخَالِفُ لَوْنُهُ لَوْنَ ثَوْبِهِ وَيَلْبِسهُ، وَذَلِكَ لِلتَّمْيِيزِ، وَلِأَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ صَالَحَهُمْ عَلَى تَغْيِيرِ زِيِّهِمْ بِمَحْضَرٍ مِنْ الصَّحَابَةِ كَمَا رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فَإِنْ قِيلَ لِمَ لَمْ يَفْعَلْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذَا بِيَهُودِ الْمَدِينَةِ وَنَصَارَى نَجْرَانَ‏؟‏‏.‏ أُجِيبَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا قَلِيلِينَ، مَعْرُوفِينَ، فَلَمَّا كَثُرُوا فِي زَمَنِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ وَخَافُوا مِنْ الْتِبَاسِهِمْ بِالْمُسْلِمِينَ احْتَاجُوا إلَى تَمْيِيزِهِمْ وَإِلْقَاءِ مِنْدِيلٍ وَنَحْوِهِ كَالْخِيَاطَةِ كَمَا فِي أَصْلِ الرَّوْضَةِ وَإِنْ اسْتَبْعَدَهُ ابْنُ الرِّفْعَةِ، وَالْأَوْلَى بِالْيَهُودِ‏:‏ الْأَصْفَرُ، وَبِالنَّصَارَى‏:‏ الْأَزْرَقُ وَالْأَكْهَبُ، وَيُقَالُ لَهُ الرَّمَادِيُّ، وَبِالْمَجُوسِ الْأَحْمَرُ أَوْ الْأَسْوَدُ‏.‏ قَالَ الْبُلْقِينِيُّ‏:‏ وَمَا ذُكِرَ مِنْ الْأَوْلَى لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ ا هـ‏.‏

وَيَكْفِي عَنْ الْخِيَاطَةِ الْعِمَامَةُ كَمَا عَلَيْهِ الْعَمَلُ الْآنَ‏.‏ أَمَّا إذَا انْفَرَدُوا بِمَحَلَّةٍ فَلَهُمْ تَرْكُ الْغِيَارِ كَمَا قَالَهُ فِي الْبَحْرِ، وَهُوَ قِيَاسُ مَا تَقَدَّمَ فِي تَعْلِيَةِ الْبِنَاءِ ‏(‏وَ‏)‏ يُؤْمَرُ الذِّمِّيُّ أَيْضًا بِشَدِّ ‏(‏الزُّنَّارِ‏)‏ وَهُوَ بِضَمِّ الْمُعْجَمَةِ‏:‏ خَيْطٌ غَلِيظٌ يُشَدُّ فِي الْوَسَطِ ‏(‏فَوْقَ الثِّيَابِ‏)‏؛ لِأَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ صَالَحَهُمْ عَلَيْهِ كَمَا رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ، هَذَا فِي الرَّجُلِ‏.‏ أَمَّا الْمَرْأَةُ فَتَشُدُّهُ تَحْتَ الْإِزَارِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي التَّنْبِيهِ، وَحَكَاهُ الرَّافِعِيُّ عَنْ التَّهْذِيبِ وَغَيْرِهِ، لَكِنْ مَعَ ظُهُورِ بَعْضِهِ حَتَّى يَحْصُلَ بِهِ فَائِدَةٌ‏.‏ قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ‏:‏ وَيَسْتَوِي فِيهِ سَائِرُ الْأَلْوَانِ‏.‏ قَالَ فِي أَصْلِ الرَّوْضَةِ‏:‏ وَلَيْسَ لَهُمْ إبْدَالُهُ بِمِنْطَقَةٍ وَمِنْدِيلٍ وَنَحْوِهِمَا، وَالْجَمْعُ بَيْنَ الْغِيَارِ وَالزُّنَّارِ أَوْلَى، وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ كَمَا يَقْتَضِيه كَلَامُ الْمُصَنِّفِ، وَمَنْ لَبِسَ مِنْهُمْ قَلَنْسُوَةً يُمَيِّزُهَا عَنْ قَلَانِسِنَا بِعَلَامَةٍ فِيهَا‏.‏

المتن‏:‏

وَإِذَا دَخَلَ حَمَّامًا فِيهِ مُسْلِمُونَ أَوْ تَجَرَّدَ عَنْ ثِيَابِهِ جَعَلَ فِي عُنُقِهِ خَاتَمَ حَدِيدٍ أَوْ رَصَاصٍ وَنَحْوُهُ‏.‏

الشَّرْحُ‏:‏

‏(‏وَإِذَا دَخَلَ‏)‏ الذِّمِّيُّ مُتَجَرِّدًا ‏(‏حَمَّامًا‏)‏ وَهُوَ مُذَكَّرٌ بِدَلِيلِ عَوْدِ الضَّمِيرِ عَلَيْهِ مُذَكَّرًا فِي قَوْلِهِ ‏(‏فِيهِ مُسْلِمُونَ أَوْ تَجَرَّدَ عَنْ ثِيَابِهِ‏)‏ بَيْنَ مُسْلِمِينَ فِي غَيْرِ حَمَّامٍ ‏(‏جَعَلَ‏)‏ وُجُوبًا ‏(‏فِي عُنُقِهِ خَاتَمَ حَدِيدٍ‏)‏ بِفَتْحِ التَّاءِ وَكَسْرِهَا ‏(‏أَوْ رَصَاصٍ‏)‏ بِفَتْحِ الرَّاءِ، وَقَوْلُهُ ‏(‏وَنَحْوُهُ‏)‏ مَرْفُوعٌ بِخَطِّهِ، وَيَجُوزُ نَصْبُهُ عَطْفًا عَلَى خَاتَمٍ لَا رَصَاصٍ، وَأَرَادَ بِنَحْوِ الْخَاتَمِ الْجُلْجُلَ وَنَحْوَهُ، وَيَجُوزُ عَطْفُهُ عَلَى الرَّصَاصِ، وَيُرَادُ حِينَئِذٍ بِنَحْوِهِ النُّحَاسُ وَنَحْوُهُ، بِخِلَافِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ‏.‏ قَالَ الزَّرْكَشِيُّ‏:‏ وَالْخَاتَمُ طَوْقٌ يَكُونُ فِي الْعُنُقِ‏.‏

تَنْبِيهٌ‏:‏

شَمَلَ إطْلَاقُ الْمُصَنِّفِ النِّسَاءَ، وَهُوَ الْأَصَحُّ بِنَاءً عَلَى جَوَازِ دُخُولِهِنَّ الْحَمَّامَ مَعَ الْمُسْلِمَاتِ، وَالْأَصَحُّ فِي زِيَادَةِ الرَّوْضَةِ الْمَنْعُ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُنَّ أَجْنَبِيَّاتٌ فِي الدِّينِ، وَتَقَدَّمَ فِي النِّكَاحِ مَالَهُ بِهَذَا تَعَلُّقٌ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي دُخُولِ الْمُسْلِمَاتِ الْحَمَّامَ فِي بَابِ الْغُسْلِ‏.‏ ‏.‏

المتن‏:‏

وَيُمْنَعُ مِنْ إسْمَاعِهِ الْمُسْلِمِينَ شِرْكًا، وَقَوْلَهُمْ فِي عُزَيْرٍ وَالْمَسِيحِ، وَمِنْ إظْهَارِ خَمْرٍ وَخِنْزِيرٍ وَنَاقُوسٍ وَعِيدٍ‏.‏

الشَّرْحُ‏:‏

فُرُوعٌ‏:‏ لَوْ لَبِسَ الذِّمِّيُّ الْحَرِيرَ وَتَعَمَّمَ أَوْ تَطَيْلَسَ لَمْ يُمْنَعْ كَمَا لَمْ يُمْنَعْ مِنْ رَفِيعِ الْقُطْنِ وَالْكَتَّانِ‏.‏ قَالَ الْأَذْرَعِيُّ‏:‏ وَيَجِبُ الْقَطْعُ بِمَنْعِهِمْ مِنْ التَّشَبُّهِ بِلِبَاسِ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالْقُضَاةِ وَنَحْوِهِمْ، لَمَا فِي ذَلِكَ مِنْ التَّعَاظُمِ وَالتِّيهِ‏.‏ قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ‏:‏ وَيُمْنَعُونَ مِنْ التَّخَتُّمِ بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، لَمَا فِيهِ مِنْ التَّطَاوُلِ وَالْمُبَاهَاةِ، وَتَجْعَلُ الْمَرْأَةُ خُفَّهَا لَوْنَيْنِ، وَلَا يُشْتَرَطُ التَّمْيِيزُ بِكُلِّ هَذِهِ الْوُجُوهِ، بَلْ يَكْفِي بَعْضُهَا‏.‏ قَالَ الْحَلِيمِيُّ‏:‏ وَلَا يَنْبَغِي لِفَعَلَةِ الْمُسْلِمِينَ وَصُيَّاغِهِمْ أَنْ يَعْمَلُوا لِلْمُشْرِكِينَ كَنِيسَةً أَوْ صَلِيبًا‏.‏ وَأَمَّا نَسْجُ الزَّنَانِيرِ فَلَا بَأْسَ بِهِ؛ لِأَنَّ فِيهِ صَغَارًا لَهُمْ ‏(‏وَيُمْنَعُ‏)‏ الْكَافِرُ ‏(‏مِنْ إسْمَاعِهِ الْمُسْلِمِينَ‏)‏ قَوْلًا ‏(‏شِرْكًا‏)‏ كَقَوْلِهِمْ‏:‏ اللَّهُ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ، تَعَالَى اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ عُلُوًّا كَبِيرًا ‏(‏وَقَوْلَهُمْ‏)‏ بِالنَّصْبِ بِخَطِّهِ عَطْفًا عَلَى شِرْكًا ‏(‏فِي عُزَيْرٍ وَالْمَسِيحِ‏)‏ صَلَّى اللَّهُ عَلَى نَبِيِّنَا وَعَلَيْهِمَا وَعَلَى بَقِيَّةِ أَنْبِيَاءِ اللَّهِ تَعَالَى ‏(‏وَمِنْ إظْهَارِ خَمْرٍ وَخِنْزِيرٍ وَنَاقُوسٍ‏)‏ وَهُوَ مَا تَضْرِبُ بِهِ النَّصَارَى لِأَوْقَاتِ الصَّلَاةِ ‏(‏وَعِيدٍ‏)‏ وَمِنْ إظْهَارِ قِرَاءَتِهِمْ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَلَوْ فِي كَنَائِسِهِمْ، لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ الْمَفَاسِدِ وَإِظْهَارِ شِعَارِ الْكُفْرِ‏.‏

تَنْبِيهٌ‏:‏

قَضِيَّةُ كَلَامِهِ مَنْعُهُمْ مِنْ ذَلِكَ سَوَاءٌ شُرِطَ عَلَيْهِمْ فِي الْعَقْدِ أَمْ لَا، وَبِهِ صَرَّحَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ وَابْنُ الصَّبَّاغِ وَغَيْرُهُمَا وَمَتَى أَظْهَرُوا خُمُورَهُمْ أُرِيقَتْ، وَقِيَاسُهُ إتْلَافُ النَّاقُوسِ إذَا أَظْهَرُوهُ، وَإِذَا فَعَلُوا مَا يَعْتَقِدُونَ تَحْرِيمَهُ أُجْرِيَ عَلَيْهِمْ حُكْمُ اللَّهِ فِيهِ، وَلَا يُعْتَبَرُ رِضَاهُمْ، وَذَلِكَ كَالزِّنَا وَالسَّرِقَةِ فَإِنَّهُمَا مُحَرَّمَانِ عِنْدَهُمْ كَشَرْعِنَا، بِخِلَافِ مَا يَعْتَقِدُونَ حِلَّهُ كَشُرْبِ الْخَمْرِ فَلَا يُقَامُ عَلَيْهِمْ الْحَدُّ بِشُرْبِهِ فِي الْأَصَحِّ، وَفُهِمَ مِنْ التَّقْيِيدِ بِالْإِظْهَارِ أَنَّهُ لَا يُمْنَعُ فِيمَا بَيْنَهُمْ، وَكَذَا إذَا انْفَرَدُوا بِقَرْيَةٍ نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْأُمِّ‏.‏

المتن‏:‏

وَلَوْ شُرِطَتْ هَذِهِ الْأُمُورُ فَخَالَفُوا لَمْ يُنْتَقَضْ الْعَهْدُ‏.‏

الشَّرْحُ‏:‏

فُرُوعٌ‏:‏ يُمْنَعُونَ أَيْضًا مِنْ إظْهَارِ دَفْنِ مَوْتَاهُمْ، وَمِنْ النَّوْحِ وَاللَّطْمِ، وَمِنْ إسْقَاءِ مُسْلِمٍ خَمْرًا، وَمِنْ إطْعَامِهِ خِنْزِيرًا، وَمِنْ رَفْعِ أَصْوَاتِهِمْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَمِنْ اسْتِبْذَالِهِمْ إيَّاهُمْ فِي الْخِدْمَةِ بِأُجْرَةٍ وَغَيْرِهَا، فَإِنْ أَظْهَرُوا شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ عُزِّرُوا، وَإِنْ لَمْ يُشْرَطْ فِي الْعَقْدِ ‏(‏وَلَوْ شُرِطَتْ هَذِهِ الْأُمُورُ‏)‏ مِنْ إحْدَاثِ الْكَنِيسَةِ فَمَا بَعْدَهُ فِي الْعَقْدِ‏:‏ أَيْ شَرْطُ نَفْيِهَا ‏(‏فَخَالَفُوا‏)‏ ذَلِكَ بِإِظْهَارِهَا ‏(‏لَمْ يُنْتَقَضْ الْعَهْدُ‏)‏ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّهُمْ يَتَدَيَّنُونَ بِهَا مِنْ غَيْرِ ضَرَرٍ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فِيهَا بِخِلَافِ الْقِتَالِ وَنَحْوِهِ كَمَا سَيَأْتِي، وَحَمَلُوا الشَّرْطَ الْمَذْكُورَ عَلَى تَخْوِيفِهِمْ‏.‏

المتن‏:‏

وَلَوْ قَاتَلُونَا أَوْ امْتَنَعُوا مِنْ الْجِزْيَةِ أَوْ مِنْ إجْرَاءِ حُكْمِ الْإِسْلَامِ انْتَقَضَ‏.‏

الشَّرْحُ‏:‏

‏(‏وَلَوْ قَاتَلُونَا‏)‏ وَلَا شُبْهَةَ لَهُمْ ‏(‏أَوْ امْتَنَعُوا مِنْ‏)‏ أَدَاءِ ‏(‏الْجِزْيَةِ أَوْ مِنْ إجْرَاءِ حُكْمِ الْإِسْلَامِ‏)‏ عَلَيْهِمْ ‏(‏انْتَقَضَ‏)‏ عَهْدُهُمْ بِذَلِكَ، وَإِنْ لَمْ يُشْرَطْ عَلَيْهِمْ الِانْتِقَاضُ بِهِ لِمُخَالَفَتِهِ مُقْتَضَى الْعَقْدِ‏.‏ أَمَّا إذَا كَانَتْ شُبْهَةٌ كَأَنْ أَعَانُوا طَائِفَةً مِنْ أَهْلِ الْبَغْيِ وَادْعُوَا الْجَهْلَ أَوْ صَالَ عَلَيْهِمْ طَائِفَةٌ مِنْ مُتَلَصِّصِي الْمُسْلِمِينَ وَقُطَّاعِهِمْ فَقَاتَلُوهُمْ دَفْعًا فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ نَقْضًا، وَسَوَاءٌ كَانَ امْتِنَاعُهُمْ مِنْ أَصْلِ الْجِزْيَةِ أَوْ مِنْ الزَّائِدِ عَلَى الدِّينَارِ‏.‏

تَنْبِيهٌ‏:‏

هَذَا بِالنِّسْبَةِ لِلْقَادِرِ‏.‏ أَمَّا الْعَاجِزُ إذَا اُسْتُمْهِلَ لَا يُنْتَقَضُ عَهْدُهُ‏.‏ قَالَ الْإِمَامُ‏:‏ وَلَا يَبْعُدُ أَخْذُهَا مِنْ الْمُوسِرِ قَهْرًا وَلَا يُنْتَقَضُ وَيُخَصُّ بِالْمُتَغَلِّبِ الْمُقَاتِلُ وَأَقَرَّهُ الرَّافِعِيُّ قَالَ الْإِمَامُ‏:‏ وَإِنَّمَا يُؤْثَرُ عَدَمُ الِانْقِيَادِ لِأَحْكَامِ الْإِسْلَامِ إذَا كَانَ يَتَعَلَّقُ بِقُوَّةٍ وَعِدَّةٍ وَنَصْبٍ لِلْقِتَالِ‏.‏ وَأَمَّا الْمُمْتَنِعُ هَارِبًا فَلَا يُنْتَقَضُ، وَجَزَمَ بِهِ فِي الْحَاوِي الصَّغِيرِ‏.‏

المتن‏:‏

وَلَوْ زَنَى ذِمِّيٌّ بِمُسْلِمَةٍ أَوْ أَصَابَهَا بِنِكَاحٍ، أَوْ دَلَّ أَهْلَ الْحَرْبِ عَلَى عَوْرَةٍ لِلْمُسْلِمِينَ، أَوْ فَتَنَ مُسْلِمًا عَنْ دِينِهِ، أَوْ طَعَنَ فِي الْإِسْلَامِ أَوْ الْقُرْآنِ، أَوْ ذَكَرَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِسُوءٍ فَالْأَصَحُّ أَنَّهُ إنْ شُرِطَ انْتِقَاضُ الْعَهْدِ بِهَا اُنْتُقِضَ، وَإِلَّا فَلَا، وَمَنْ انْتَقَضَ عَهْدُهُ بِقِتَالٍ جَازَ دَفْعُهُ، وَقَتْلُهُ أَوْ بِغَيْرِهِ لَمْ يَجِبْ إبْلَاغُهُ مَأْمَنَهُ فِي الْأَظْهَرِ، بَلْ يَخْتَارُ الْإِمَامُ فِيهِ قَتْلًا وَرِقًّا وَمَنًّا وَفِدَاءً، فَإِنْ أَسْلَمَ قَبْلَ الِاخْتِيَارِ امْتَنَعَ الرِّقُّ‏.‏

الشَّرْحُ‏:‏

‏(‏وَلَوْ زَنَى ذِمِّيٌّ بِمُسْلِمَةٍ‏)‏ مَعَ عِلْمِهِ بِإِسْلَامِهَا حَالَ الزِّنَا، وَسَيَأْتِي جَوَابُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ وَمَا عُطِفَ عَلَيْهَا فِي قَوْلِهِ فَالْأَصَحُّ إلَخْ، فَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ الزَّانِي بِإِسْلَامِهَا كَمَا لَوْ عَقَدَ عَلَى كَافِرَةٍ فَأَسْلَمَتْ بَعْدَ الدُّخُولِ بِهَا فَأَصَابَهَا فِي الْعِدَّةِ فَلَا يُنْتَقَضُ عَهْدُهُ بِذَلِكَ ‏(‏أَوْ أَصَابَهَا بِنِكَاحٍ‏)‏ أَيْ بِاسْمِهِ أَوْ لَاطَ بِغُلَامٍ مُسْلِمٍ أَوْ قَتَلَ مُسْلِمًا قَتْلًا يُوجِبُ قِصَاصًا، وَإِنْ لَمْ نُوجِبْهُ عَلَيْهِ كَذِمِّيٍّ حُرٍّ قَتَلَ عَبْدًا مُسْلِمًا أَوْ قَطَعَ طَرِيقًا عَلَى مُسْلِمٍ ‏(‏أَوْ دَلَّ أَهْلَ الْحَرْبِ عَلَى عَوْرَةٍ‏)‏ أَيْ خَلَلٍ ‏(‏لِلْمُسْلِمِينَ‏)‏ الْمَوْجُودِ فِيهِمْ بِسَبَبِ ضَعْفٍ أَوْ غَيْرِهِ أَوْ آوَى جَاسُوسًا لَهُمْ ‏(‏أَوْ فَتَنَ مُسْلِمًا عَنْ دِينِهِ‏)‏ أَوْ قَذَفَ مُسْلِمًا أَوْ دَعَاهُ إلَى دِينِهِمْ ‏(‏أَوْ طَعَنَ فِي الْإِسْلَامِ أَوْ الْقُرْآنِ أَوْ‏)‏ سَبَّ اللَّهَ أَوْ ‏(‏ذَكَرَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏)‏ أَوْ غَيْرَهُ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامِهِ عَلَيْهِمْ ‏(‏بِسُوءٍ‏)‏ مِمَّا لَا يَتَدَيَّنُونَ بِهِ وَفَعَلُوا ذَلِكَ جَهْرًا ‏(‏فَالْأَصَحُّ‏)‏ فِي الْمَسَائِلِ الْمَذْكُورَةِ ‏(‏أَنَّهُ إنْ شُرِطَ‏)‏ عَلَيْهِمْ ‏(‏انْتِقَاضُ الْعَهْدِ بِهَا اُنْتُقِضَ، وَإِلَّا فَلَا‏)‏ يُنْتَقَضُ لِمُخَالَفَتِهِ الشَّرْطَ فِي الْأَوَّلِ دُونَ الثَّانِي وَهَذَا مَا فِي الْمُحَرَّرِ، وَصَحَّحَهُ فِي الشَّرْحِ الصَّغِيرِ، وَنَقَلَهُ الزَّرْكَشِيُّ وَغَيْرُهُ مِنْ نَصِّ الشَّافِعِيِّ، وَالثَّانِي يُنْتَقَضُ مُطْلَقًا، لِمَا فِيهِ مِنْ الضَّرَرِ، وَالثَّالِثُ لَا يُنْتَقَضُ مُطْلَقًا، وَوَقَعَ فِي أَصْلِ الرَّوْضَةِ تَصْحِيحُهُ وَعَلَى الْأَوَّلِ لَوْ نَكَحَ كَافِرَةً، ثُمَّ أَسْلَمَتْ بَعْدَ الدُّخُولِ فَوَطِئَهَا فِي الْعِدَّةِ، لَمْ يُنْتَقَضْ عَهْدُهُ مُطْلَقًا، فَقَدْ يُسْلِمُ فَيَسْتَمِرُّ نِكَاحُهُ، أَمَّا مَا يَتَدَيَّنُونَ بِهِ كَقَوْلِهِمْ‏:‏ الْقُرْآنُ لَيْسَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، أَوْ مُحَمَّدٌ لَيْسَ بِنَبِيٍّ، فَلَا انْتِقَاضَ بِهِ مُطْلَقًا وَيُعَزَّرُونَ عَلَى ذَلِكَ، وَلَوْ شَرَطَ عَلَيْهِ الِانْتِقَاضَ بِذَلِكَ ثُمَّ قُتِلَ بِمُسْلِمٍ أَوْ بِزِنَاهُ حَالَةَ كَوْنِهِ مُحْصَنًا بِمُسْلِمَةٍ صَارَ مَالُهُ فَيْئًا كَمَا قَالَهُ ابْنُ الْمُقْرِي؛ لِأَنَّهُ حَرْبِيٌّ مَقْتُولٌ تَحْتَ أَيْدِينَا لَا يُمْكِنُ صَرْفُهُ لِأَقَارِبِهِ الذِّمِّيِّينَ لِعَدَمِ التَّوَارُثِ، وَلَا لِلْحَرْبِيِّينَ؛ لِأَنَّا إذَا قَدَرْنَا عَلَى مَالِهِمْ أَخَذْنَاهُ فَيْئًا أَوْ غَنِيمَةً، وَشَرْطُ الْغَنِيمَةِ هُنَا لَيْسَ مَوْجُودًا‏.‏

تَنْبِيهٌ‏:‏

قَوْلُ الْمُصَنِّفِ‏:‏ وَإِلَّا فَلَا يَدْخُلُ فِيهِ مَا لَوْ أَشْكَلَ الْحَالُ فِي شَرْطِ مَا ذُكِرَ وَعَدَمِهِ، لَكِنْ قَالَ فِي الِانْتِصَارِ‏:‏ يَجِبُ تَنْزِيلُهُ عَلَى أَنَّهُ مَشْرُوطٌ؛ لِأَنَّ مُطْلَقَ الْعَقْدِ يُحْمَلُ عَلَى الْمُتَعَارَفِ، وَهَذَا الْعَقْدُ فِي مُطْلَقِ الشَّرْعِ كَانَ مُشْتَمِلًا عَلَى هَذِهِ الشَّرَائِطِ، وَهَذَا ظَاهِرٌ وَإِنْ نَظَرَ فِيهِ ابْنُ الرِّفْعَةِ ‏(‏وَمَنْ انْتَقَضَ عَهْدُهُ بِقِتَالٍ جَازَ دَفْعُهُ‏)‏ بِغَيْرِهِ ‏(‏وَ‏)‏ جَازَ أَيْضًا ‏(‏قَتْلُهُ‏)‏ لِقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ‏}‏ وَلَا يَبْلُغُ مَأْمَنَهُ، إذْ لَا وَجْهَ لِتَبْلِيغِهِ مَأْمَنَهُ مَعَ نَصْبِهِ الْقِتَالَ، وَحِينَئِذٍ فَيَتَخَيَّرُ الْإِمَامُ فِيمَنْ ظَفِرَ بِهِ مِنْهُمْ مِنْ الْأَحْرَارِ الْكَامِلِينَ كَمَا يَتَخَيَّرُ فِي الْأَسِيرِ‏.‏

تَنْبِيهٌ‏:‏

تَعْبِيرُهُ بِالْجَوَازِ يَقْتَضِي أَنَّهُ لَا يَجِبُ، وَلَيْسَ مُرَادًا، بَلْ هُوَ وَاجِبٌ، فَقَدْ مَرَّ أَنَّ الْجِهَادَ عِنْدَ دُخُولِ طَائِفَةٍ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ دَارَ الْإِسْلَامِ فَرْضُ عَيْنٍ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الَّتِي كَانَتْ لَهَا ذِمَّةٌ ثُمَّ انْتَقَضَتْ، وَعِبَارَةُ الرَّوْضَةِ‏:‏ فَلَا بُدَّ مِنْ دَفْعِهِمْ وَالسَّعْيِ فِي اسْتِئْصَالِهِمْ ‏(‏أَوْ‏)‏ انْتَقَضَ عَهْدُهُ ‏(‏بِغَيْرِهِ‏)‏ أَيْ الْقِتَالِ وَلَمْ يَسْأَلْ تَجْدِيدَ الْعَهْدِ ‏(‏لَمْ يَجِبْ إبْلَاغُهُ مَأْمَنَهُ‏)‏ بِفَتْحِ الْمِيمَيْنِ‏:‏ أَيْ مَكَانًا يَأْمَنُ فِيهِ عَلَى نَفْسِهِ ‏(‏فِي الْأَظْهَرِ‏)‏ وَالْمُرَادُ بِهِ كَمَا قَالَهُ الْبَنْدَنِيجِيُّ‏:‏ أَقْرَبُ بِلَادِ الْحَرْبِ مِنْ بِلَادِ الْإِسْلَامِ، وَلَا يَلْزَمُنَا إلْحَاقُهُ بِبَلَدِهِ الَّذِي يَسْكُنُهُ فَوْقَ ذَلِكَ، إلَّا أَنْ يَكُونَ بَيْنَ بِلَادِ الْكُفْرِ وَمَسْكَنِهِ بَلَدٌ لِلْمُسْلِمِينَ يُحْتَاجُ لِلْمُرُورِ عَلَيْهِ ‏(‏بَلْ يَخْتَارُ الْإِمَامُ فِيهِ قَتْلًا‏)‏ وَأَسْرًا ‏(‏وَرِقًا، وَمَنًّا، وَفِدَاءً‏)‏؛ لِأَنَّهُ كَافِرٌ لَا أَمَانَ لَهُ كَالْحَرْبِيِّ‏.‏ وَالثَّانِي يَجِبُ؛ لِأَنَّهُمْ دَخَلُوا دَارَ الْإِسْلَامِ بِأَمَانٍ فَلَمْ يَجُزْ قَتْلُهُمْ قَبْلَ الرَّدِّ إلَى الْمَأْمَنِ‏:‏ كَمَا لَوْ دَخَلَ بِأَمَانِ صَبِيٍّ‏.‏ وَأَجَابَ الْأَوَّلُ بِأَنَّ مَنْ دَخَلَ بِأَمَانِ صَبِيٍّ يَعْتَقِدُ لِنَفْسِهِ أَمَانًا، وَهَذَا فَعَلَ بِاخْتِيَارِهِ مَا أَوْجَبَ الِانْتِقَاضَ، وَعَلَى الْقَوْلَيْنِ لَوْ فَعَلَ مَا يُوجِبُ حَدًّا أَوْ تَعْزِيرًا أَقَمْنَاهُ قَبْلَ ذَلِكَ، صَرَّحَ بِهِ الرُّويَانِيِّ وَغَيْرُهُ فِي الْحَدِّ، وَمِثْلُهُ التَّعْزِيرُ، وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ ‏"‏ أَنَّهُ صَلَبَ يَهُودِيًّا زَنَى بِمُسْلِمَةٍ ‏"‏، أَمَّا إذَا سَأَلَ تَجْدِيدَ الْعَهْدِ فَتَجِبُ إجَابَتُهُ ‏(‏فَإِنْ أَسْلَمَ‏)‏ مَنْ انْتَقَضَ عَهْدُهُ ‏(‏قَبْلَ الِاخْتِيَارِ‏)‏ مِنْ الْإِمَامِ لِشَيْءٍ مِمَّا سَبَقَ ‏(‏امْتَنَعَ‏)‏ الْقَتْلُ، وَ ‏(‏الرِّقُّ‏)‏ وَالْفِدَاءُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَحْصُلْ فِي يَدِ الْإِمَامِ بِالْقَهْرِ، وَلَهُ أَمَانٌ مُتَقَدِّمٌ فَخَفَّ أَمْرُهُ‏.‏

تَنْبِيهٌ‏:‏

لَوْ قَالَ الْمُصَنِّفُ تَعَيَّنَ مَنْ كَانَ أَوْلَى مِمَّا ذَكَرَهُ‏.‏

المتن‏:‏

وَإِذَا بَطَلَ أَمَانُ رِجَالٍ لَمْ يَبْطُلْ أَمَانُ نِسَائِهِمْ وَالصَّبِيَّانِ فِي الْأَصَحِّ، وَإِذَا اخْتَارَ ذِمِّيٌّ نَبْذَ الْعَهْدِ وَاللُّحُوقَ بِدَارِ الْحَرْبِ بَلَغَ الْمَأْمَنَ‏.‏

الشَّرْحُ‏:‏

‏(‏وَإِذَا بَطَلَ أَمَانُ رِجَالٍ لَمْ يَبْطُلْ أَمَانُ نِسَائِهِمْ، وَ‏)‏ أَمَانُ ‏(‏الصَّبِيَّانِ فِي الْأَصَحِّ‏)‏؛ لِأَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ لَهُمْ الْأَمَانُ وَلَمْ يُوجَدْ مِنْهُمْ نَاقِضٌ فَلَا يَجُوزُ سَبْيُهُمْ، وَيَجُوزُ تَقْرِيرُهُمْ فِي دَارِنَا‏.‏ وَالثَّانِي يَبْطُلُ؛ لِأَنَّهُمْ دَخَلُوا تَبَعًا فَيَزُولُ بِزَوَالِ الْأَصْلِ، وَعَلَى الْأَوَّلِ لَوْ طَلَبُوا الرُّجُوعَ إلَى دَارِ الْحَرْبِ‏.‏ أُجِيبَ النِّسَاءُ دُونَ الصِّبْيَانِ؛ لِأَنَّهُ لَا حُكْمَ لِاخْتِيَارِهِمْ قَبْلَ الْبُلُوغِ، فَإِنْ طَلَبَهُمْ مُسْتَحِقُّ الْحَضَانَةِ أُجِيبَ، فَإِنْ بَلَغُوا وَبَذَلُوا الْجِزْيَةَ فَذَاكَ، وَإِلَّا أُلْحِقُوا بِدَارِ الْحَرْبِ‏.‏

تَنْبِيهٌ‏:‏

الْخَنَاثَى كَالنِّسَاءِ، وَالْمَجَانِينُ كَالصِّبْيَانِ وَالْإِفَاقَةُ كَالْبُلُوغِ ‏(‏وَإِذَا اخْتَارَ ذِمِّيٌّ نَبْذَ الْعَهْدِ وَاللُّحُوقَ بِدَارِ الْحَرْبِ بَلَغَ‏)‏ عَلَى الْمَذْهَبِ ‏(‏الْمَأْمَنَ‏)‏ السَّابِقَ تَفْسِيرُهُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ مِنْهُ خِيَانَةٌ، وَلَا مَا يُوجِبُ نَقْضَ عَهْدِهِ فَبَلَغَ مَكَانًا يَأْمَنُ فِيهِ عَلَى نَفْسِهِ، وَلَوْ رَجَعَ الْمُسْتَأْمَنُ إلَى بِلَادِهِ بِإِذْنِ الْإِمَامِ لِتِجَارَةٍ أَوْ رِسَالَةٍ فَهُوَ بَاقٍ عَلَى أَمَانِهِ فِي نَفْسِهِ وَمَالِهِ، وَإِنْ رَجَعَ لِلِاسْتِيطَانِ انْتَقَضَ عَهْدُهُ، وَلَوْ رَجَعَ وَمَاتَ فِي بِلَادِهِ وَاخْتَلَفَ الْوَارِثُ وَالْإِمَامُ هَلْ انْتَقَلَ لِلْإِقَامَةِ فَهُوَ حَرْبِيٌّ، أَوْ لِلتِّجَارَةِ فَلَا يُنْتَقَضُ عَهْدُهُ‏.‏ أَجَابَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ بِأَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْإِمَامِ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي رُجُوعِهِ إلَى بِلَادِهِ الْإِقَامَةُ‏.‏

فَائِدَةٌ‏:‏

رُوِيَ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ‏:‏ ‏{‏لَوْ عَاشَ إبْرَاهِيمُ لَعَتَقْت أَخْوَالَهُ، وَلَوَضَعْت الْجِزْيَةَ عَنْ كُلِّ قِبْطِيٍّ‏}‏ وَرُوِيَ أَنَّ الْحَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ كَلَّمَ مُعَاوِيَةَ فِي أَهْلِ قَرْيَةِ أُمِّ إبْرَاهِيمَ فَسَامَحَهُمْ بِالْجِزْيَةِ إكْرَامًا لِسَيِّدِنَا إبْرَاهِيمَ قَالَ الْمُصَنِّفُ‏:‏ وَمَا رُوِيَ عَنْ بَعْضِ الْمُتَقَدِّمِينَ‏:‏ لَوْ عَاشَ إبْرَاهِيمُ لَكَانَ نَبِيًّا بَاطِلٌ‏.‏

خَاتِمَةٌ‏:‏

الْأَوْلَى لِلْإِمَامِ أَنْ يَكْتُبَ بَعْدَ عَقْدِ الذِّمَّةِ اسْمَ مَنْ عَقَدَ لَهُ وَدِينَهُ وَحِلْيَتَهُ، وَيَتَعَرَّضَ لِسِنِّهِ أَهُوَ شَيْخٌ أَمْ شَابٌّ، وَيَصِفَ أَعْضَاءَهُ الظَّاهِرَةَ مِنْ وَجْهِهِ وَلِحْيَتِهِ وَحَاجِبِيهِ وَعَيْنَيْهِ وَشَفَتَيْهِ وَأَنْفِهِ وَأَسْنَانِهِ وَآثَارِ وَجْهِهِ إنْ كَانَ فِيهِ آثَارٌ وَلَوْنُهُ مِنْ سُمْرَةٍ وَشُقْرَةٍ وَغَيْرِهِمَا، وَيَجْعَلَ لِكُلٍّ مِنْ طَوَائِفِهِمْ عَرِيفًا مُسْلِمًا يَضْبِطُهُمْ لِيُعَرِّفَهُ بِمِنْ مَاتَ أَوْ أَسْلَمَ أَوْ بَلَغَ مِنْهُمْ أَوْ دَخَلَ فِيهِمْ‏.‏ وَأَمَّا مَنْ يَحْضُرُهُمْ لِيُؤَدِّيَ كُلٌّ مِنْهُمْ الْجِزْيَةَ، أَوْ يَشْتَكِي إلَى الْإِمَامِ مَنْ يَتَعَدَّى عَلَيْهِمْ مِنَّا أَوْ مِنْهُمْ فَيَجُوزُ جَعْلُهُ عَرِّيفًا كَذَلِكَ وَلَوْ كَانَ كَافِرًا، وَإِنَّمَا اُشْتُرِطَ إسْلَامُهُ فِي الْفَرْضِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ الْكَافِرَ لَا يُعْتَمَدُ خَبَرُهُ

بَابُ الْهُدْنَةِ

المتن‏:‏

عَقْدُهَا لِكُفَّارِ إقْلِيمٍ يَخْتَصُّ بِالْإِمَامِ أَوْ نَائِبِهِ فِيهَا، وَلِبَلْدَةٍ يَجُوزُ لِوَالِي الْإِقْلِيمِ أَيْضًا‏.‏

الشَّرْحُ‏:‏

بَابُ الْهُدْنَةِ وَتُسَمَّى الْمُوَادَعَةَ وَالْمُعَاهَدَةَ وَالْمُسَالَمَةَ وَالْمُهَادَنَةَ، وَهِيَ لُغَةً الْمُصَالَحَةُ‏.‏ وَشَرْعًا مُصَالَحَةُ أَهْلِ الْحَرْبِ عَلَى تَرْكِ الْقِتَالِ مُدَّةً مُعِينَةً بَعُوضٍ أَوْ غَيْرِهِ سَوَاءٌ فِيهِمْ مَنْ يُقَرُّ عَلَى دِينِهِ وَمَنْ لَمْ يُقَرَّ، وَهِيَ مُشْتَقَّةٌ مِنْ الْهُدُونِ، وَهُوَ السُّكُونُ‏.‏ وَالْأَصْلُ فِيهَا قَبْلَ الْإِجْمَاعِ قَوْله تَعَالَى‏:‏ ‏{‏بَرَاءَةٌ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ‏}‏ الْآيَةَ، وقَوْله تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا‏}‏، وَمُهَادَنَتُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُرَيْشًا عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ كَمَا رَوَاهُ الشَّيْخَانِ، وَهِيَ جَائِزَةٌ لَا وَاجِبَةٌ بِأَرْبَعَةِ شُرُوطٍ‏:‏ الْأَوَّلُ مَا أَشَارَ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ ‏(‏عَقْدُهَا لِكُفَّارِ إقْلِيمٍ‏)‏ كَالرُّومِ وَالْهِنْدِ ‏(‏يَخْتَصُّ بِالْإِمَامِ أَوْ نَائِبِهِ فِيهَا‏)‏ أَيْ عَقْدِ الْهُدْنَةِ لِمَا فِيهَا مِنْ الْخَطَرِ، وَالْإِمَامُ أَوْ نَائِبُهُ هُوَ الَّذِي يَتَوَلَّى الْأُمُورَ الْعِظَامَ، وَهُوَ أَعْرَفُ بِالْمَصَالِحِ مِنْ الْآحَادِ، وَأَقْدَرُ عَلَى التَّدْبِيرِ مِنْهُمْ كَمَا قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ، وَلَا يَقُومُ إمَامُ الْبُغَاةِ مَقَامَ إمَامِ الْهُدْنَةِ فِي ذَلِكَ‏.‏

تَنْبِيهٌ‏:‏

قَدْ عُلِمَ مِنْ مَنْعِ عَقْدِهَا مِنْ الْآحَادِ لِأَهْلِ إقْلِيمٍ مَنْعُ عَقْدِهَا لِلْكُفَّارِ مُطْلَقًا مِنْ بَابٍ أَوْلَى، وَقَدْ صَرَّحَ فِي الْمُحَرَّرِ بِالْأَمْرَيْنِ جَمِيعًا، فَإِنْ تَعَاطَاهَا الْآحَادُ لَمْ يَصِحَّ، لَكِنْ لَا يُغْتَالُونَ بَلْ يَبْلُغُونَ الْمَأْمَنَ؛ لِأَنَّهُمْ دَخَلُوا عَلَى اعْتِقَادِ صِحَّةِ أَمَانِهِ ‏(‏وَ‏)‏ عَقْدُهَا ‏(‏لِبَلْدَةٍ‏)‏ أَيْ كُفَّارِهَا ‏(‏يَجُوزُ لِوَالِي الْإِقْلِيمِ‏)‏ لِتِلْكَ الْبَلْدَةِ كَمَا فِي الرَّوْضَةِ وَأَصْلِهَا لِتَفْوِيضِ مَصْلَحَةِ الْإِقْلِيمِ إلَيْهِ، وَلِاطِّلَاعِهِ عَلَى مَصَالِحِهِ، وَلِأَنَّ الْحَاجَةَ قَدْ تَدْعُو إلَى ذَلِكَ، وَالْمَفْسَدَةُ فِيهِ قَلِيلَةٌ لَوْ أَخْطَأَ، وَأَفْهَمَ قَوْلُهُ ‏(‏أَيْضًا‏)‏ أَنَّهُ يَجُوزُ عَقْدُ الْهُدْنَةِ لِكُفَّارِ بَلْدَةٍ مِنْ الْإِمَامِ وَنَائِبِهِ أَيْضًا‏.‏ قَالَ الرَّافِعِيُّ‏:‏ وَالْقُصُورُ عَلَى بَلْدَةٍ وَاحِدَةٍ فِي ذَلِكَ الْإِقْلِيمِ لَا مَعْنَى لَهُ فَإِنَّ الْحَاجَةَ قَدْ تَدْعُو إلَى مُهَادَنَةِ أَهْلِ بِلَادٍ فِي ذَلِكَ الْإِقْلِيمِ وَتَكُونُ الْمَصْلَحَةُ فِي ذَلِكَ‏.‏

تَنْبِيهٌ‏:‏

قَدْ فُهِمَ مِنْ تَعْبِيرِ الْمُصَنِّفِ بِعَقْدِهَا اعْتِبَارُ الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ، لَكِنْ عَلَى كَيْفِيَّةِ مَا سَبَقَ فِي عَقْدِ الْأَمَانِ، وَقَضِيَّةُ كَلَامِهِ كَغَيْرِهِ‏:‏ أَنَّ وَالِيَ الْإِقْلِيمِ لَا يُهَادِنُ جَمِيعَ أَهْلِ الْإِقْلِيمِ، وَبِهِ صَرَّحَ الْفُورَانِيُّ، وَهُوَ أَظْهَرُ مِنْ قَوْلِ الْعِمْرَانِيِّ أَنَّ لَهُ ذَلِكَ، وَقَضِيَّةُ كَلَامِهِ أَيْضًا أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ إذْنُ الْإِمَامِ لِلْوَالِي فِي ذَلِكَ، وَهُوَ قَضِيَّةُ كَلَامِ الرَّافِعِيِّ، لَكِنْ نَصَّ الشَّافِعِيِّ عَلَى اعْتِبَارِ إذْنِهِ وَهُوَ الظَّاهِرُ، وَالْإِقْلِيمُ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ أَحَدُ الْأَقَالِيمِ السَّبْعَةِ الَّتِي فِي الرُّبْعِ الْمَسْكُونِ مِنْ الْأَرْضِ، وَأَقَالِيمُهَا أَقْسَامُهَا، وَذَلِكَ أَنَّ الدُّنْيَا مَقْسُومَةٌ عَلَى سَبْعَةِ أَسْهُمٍ عَلَى تَقْدِيرِ أَصْحَابِ الْهَيْئَةِ‏.‏ ‏.‏

المتن‏:‏

وَإِنَّمَا تُعْقَدُ لِمَصْلَحَةٍ كَضَعْفِنَا بِقِلَّةِ عَدَدٍ وَأُهْبَةٍ أَوْ رَجَاءِ إسْلَامِهِمْ أَوْ بَذْلِ جِزْيَةٍ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ جَازَتْ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ لَا سَنَةً، وَكَذَا دُونَهَا فِي الْأَظْهَرِ، وَلِضَعْفٍ تَجُوزُ عَشْرَ سِنِينَ فَقَطْ، وَمَتَى زَادَ عَلَى الْجَائِزِ فَقَوْلَا تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ، وَإِطْلَاقُ الْعَهْدِ يُفْسِدُهُ

الشَّرْحُ‏:‏

ثُمَّ شَرَعَ فِي الشَّرْطِ الثَّانِي بِقَوْلِهِ ‏(‏وَإِنَّمَا تُعْقَدُ لِمَصْلَحَةٍ‏)‏ وَلَا يَكْفِي انْتِفَاءُ الْمَفْسَدَةِ لِمَا فِيهِ مِنْ مُوَادَعَتِهِمْ بِلَا مَصْلَحَةٍ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمْ الْأَعْلَوْنَ‏}‏ ثُمَّ بَيَّنَ الْمَصْلَحَةَ بِقَوْلِهِ ‏(‏كَضَعْفِنَا بِقِلَّةِ عَدَدٍ‏)‏ لَنَا ‏(‏وَأُهْبَةٍ، أَوْ‏)‏ لَا لِضَعْفِنَا، بَلْ لِأَجْلِ ‏(‏رَجَاءِ إسْلَامِهِمْ، أَوْ بَذْلِ جِزْيَةٍ‏)‏ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ كَحَاجَةِ الْإِمَامِ إلَى إعَانَتِهِمْ لَهُ عَلَى غَيْرِهِمْ؛ لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ‏{‏هَادَنَ صَفْوَانَ بْنَ أُمَيَّةَ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ عَامَ الْفَتْحِ‏}‏ وَقَدْ كَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُسْتَظْهِرًا عَلَيْهِ، وَلَكِنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ لِرَجَاءِ إسْلَامِهِ، فَأَسْلَمَ قَبْلَ مُضِيِّهَا‏.‏

تَنْبِيهٌ‏:‏

قَوْلُهُ‏:‏ أَوْ رَجَاءِ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ كَضَعْفِنَا، لَا عَلَى الَّذِي يَلِيهِ كَمَا يُفْهَمُ مِمَّا قَدَّرْتُهُ، فَكَانَ يَنْبَغِي إعَادَةُ الْجَارِ فِيهِ‏:‏ أَيْ أَنَّ الْمَصْلَحَةَ تَارَةً تَكُونُ لِضَعْفِنَا لِقِلَّةِ الْعَدَدِ وَالْأُهْبَةِ، وَتَارَةً مَعَ قُوَّتِنَا، وَلَكِنْ لِرَجَاءِ إسْلَامِهِمْ أَوْ غَيْرِهِ‏.‏ ثُمَّ شَرَعَ فِي الشَّرْطِ الثَّالِثِ بِقَوْلِهِ ‏(‏فَإِنْ لَمْ يَكُنْ‏)‏ بِنَا ضَعْفٌ وَرَأَى الْإِمَامُ الْمَصْلَحَةَ فِيهَا ‏(‏جَازَتْ‏)‏ وَلَوْ بِلَا عِوَضٍ ‏(‏أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ‏)‏ لِلْآيَةِ الْمَارَّةِ، وَلِمُهَادَنَتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَفْوَانَ كَمَا مَرَّ ‏(‏لَا سَنَةً‏)‏ فَلَا يَجُوزُ جَزْمًا؛ لِأَنَّهَا مُدَّةٌ تَجِبُ فِيهَا الْجِزْيَةُ فَلَا يَجُوزُ تَقْرِيرُهُمْ فِيهَا بِلَا جِزْيَةٍ ‏(‏وَكَذَا دُونَهَا‏)‏ فَوْقَ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ لَا يَجُوزُ أَيْضًا ‏(‏فِي الْأَظْهَرِ‏)‏ لِزِيَادَتِهَا عَلَى مُدَّةِ السِّيَاحَةِ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ‏}‏ هُوَ عَامٌّ إلَّا مَا خُصَّ لِدَلِيلٍ وَهُوَ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ‏.‏ وَالثَّانِي يَجُوزُ لِنَقْصِهَا عَنْ مُدَّةِ الْجِزْيَةِ، وَالْأَوَّلُ نَظَرَ إلَى مَفْهُومِ الْآيَةِ‏.‏

تَنْبِيهٌ‏:‏

مَحَلُّ ذَلِكَ كَمَا قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ فِي النُّفُوسِ‏.‏ أَمَّا أَمْوَالُهُمْ فَيَجُوزُ الْعَقْدُ عَلَيْهَا مُؤَبَّدًا، وَهَلْ يَجُوزُ ذَلِكَ فِي الدِّيَةِ‏؟‏ فِيهِ وَجْهَانِ، أَوْجَهُهُمَا الْجَوَازُ‏.‏ وَاسْتَثْنَى الْبُلْقِينِيُّ الْمُهَادَنَةَ مَعَ النِّسَاءِ فَإِنَّهَا تَجُوزُ مِنْ غَيْرِ تَقْيِيدٍ بِمُدَّةٍ ‏(‏وَلِضَعْفٍ تَجُوزُ عَشْرَ سِنِينَ‏)‏ فَمَا دُونَهَا بِحَسَبِ الْحَاجَةِ ‏(‏فَقَطْ‏)‏ فَيُمْتَنَعُ أَكْثَرُ مِنْهَا؛ لِأَنَّ هَذَا غَايَةُ مُدَّةِ الْهُدْنَةِ، وَلَا يَجُوزُ الْوُصُولُ إلَيْهَا إلَّا عِنْدَ الِاحْتِيَاجِ لَهَا؛ لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ‏{‏هَادَنَ قُرَيْشًا فِي الْحُدَيْبِيَةِ هَذِهِ الْمُدَّةَ‏}‏ رَوَاهُ أَبُو دَاوُد‏.‏ وَكَانَ ذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يَقْوَى الْإِسْلَامُ‏.‏

تَنْبِيهٌ‏:‏

مَحَلُّ الْمَنْعِ إذَا جَرَى ذَلِكَ فِي عَقْدٍ وَاحِدٍ، فَإِنْ جَرَى فِي عُقُودٍ مُتَفَرِّقَةٍ جَازَ بِشَرْطِ أَنْ لَا يَزِيدَ كُلُّ عَقْدٍ عَلَى عَشْرٍ كَمَا جَزَمَ بِهِ الْفُورَانِيُّ وَغَيْرُهُ، قَالَهُ ابْنُ الرِّفْعَةِ قَالَ الْأَذْرَعِيُّ‏:‏ وَعِبَارَةُ الرَّوْضَةِ وَلَا تَجُوزُ الزِّيَادَةُ عَلَى الْعَشْرِ، لَكِنْ إنْ انْقَضَتْ الْمُدَّةُ وَالْحَاجَةُ بَاقِيَةٌ اُسْتُؤْنِفَ الْعَقْدُ، وَهَذَا صَحِيحٌ‏.‏ وَأَمَّا اسْتِئْنَافُ عَقْدٍ إثْرَ عَقْدٍ كَمَا قَالَهُ الْفُورَانِيُّ فَغَرِيبٌ لَا أَحْسَبُ الْأَصْحَابَ يُوَافِقُونَ عَلَيْهِ أَصْلًا‏.‏ انْتَهَى، وَهَذَا ظَاهِرٌ، وَإِذَا عَقَدَ لَهُمْ هَذِهِ الْمُدَّةَ ثُمَّ اسْتَقْوَيْنَا قَبْلَ فَرَاغِهَا تَمَّتْ لَهُمْ عَمَلًا بِالْعَقْدِ ‏(‏وَمَتَى زَادَ‏)‏ الْإِمَامُ أَوْ نَائِبُهُ فِي عَقْدِهَا ‏(‏عَلَى‏)‏ الصَّدْرِ ‏(‏الْجَائِزِ‏)‏ فِيهَا بِحَسَبِ الْحَاجَةِ بِأَنْ زَادَ فِي حَالِ قُوَّتِنَا عَلَى أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ، أَوْ حَالِ ضَعْفِنَا عَلَى عَشْرِ سِنِينَ ‏(‏فَقَوْلَا تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ‏)‏ فِي عَقْدِهَا؛ لِأَنَّهُ جَمَعَ فِي الْعَقْدِ الْوَاحِدِ بَيْنَ مَا يَجُوزُ الْعَقْدُ عَلَيْهِ وَمَا لَا يَجُوزُ، أَظْهَرُهُمَا يَبْطُلُ فِي الزَّائِدِ فَقَطْ ‏(‏وَإِطْلَاقُ الْعَهْدِ‏)‏ عَنْ ذِكْرِ الْمُدَّةِ فِيهِ ‏(‏يُفْسِدُهُ‏)‏ أَيْ عَقَدَ الْهُدْنَةِ لِاقْتِضَائِهِ التَّأْبِيدَ وَهُوَ مُمْتَنِعٌ لِمُنَافَاةِ مَقْصُودِهِ الْمَصْلَحَةَ‏.‏ ‏.‏

المتن‏:‏

وَكَذَا شَرْطٌ فَاسِدٌ عَلَى الصَّحِيحِ بِأَنْ شَرَطَ مَنْعَ فَكِّ أَسْرَانَا، أَوْ تَرْكَ مَالِنَا لَهُمْ، أَوْ لِتُعْقَدَ لَهُمْ ذِمَّةٌ بِدُونِ دِينَارٍ، أَوْ بِدَفْعِ مَالٍ إلَيْهِمْ‏.‏

الشَّرْحُ‏:‏

ثُمَّ شَرَعَ فِي الشَّرْطِ الرَّابِعِ بِقَوْلِهِ ‏(‏وَكَذَا شَرْطٌ فَاسِدٌ‏)‏ أَيْ يُشْتَرَطُ خُلُوُّ عَقْدِ الْهُدْنَةِ مِنْ كُلِّ شَرْطٍ فَاسِدٍ ‏(‏عَلَى الصَّحِيحِ‏)‏ الْمَنْصُوصِ ‏(‏بِأَنْ شَرَطَ مَنْعَ فَكِّ أَسْرَانَا‏)‏ مِنْهُمْ ‏(‏أَوْ تَرْكَ مَالِنَا‏)‏ الَّذِي اسْتَوْلَوْا عَلَيْهِ‏.‏ قَالَ الزَّرْكَشِيُّ بَحْثًا‏:‏ أَوْ مَالِ ذِمِّيٍّ ‏(‏لَهُمْ أَوْ لِتُعْقَدَ لَهُمْ‏)‏ أَيْ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ ‏(‏ذِمَّةٌ بِدُونِ دِينَارٍ، أَوْ‏)‏ لِتُعْقَدَ لَهُمْ ذِمَّةٌ ‏(‏بِدَفْعِ مَالٍ إلَيْهِمْ‏)‏ وَلَمْ تَدْعُ ضَرُورَةٌ إلَيْهِ فَهُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى بِدُونِ، وَأَشْعَرَ كَلَامُهُ انْحِصَارَ الشَّرْطِ الْفَاسِدِ فِيمَا ذَكَرَهُ‏.‏ وَلَيْسَ مُرَادًا، فَمِنْهُ مَا إذَا شَرَطَ أَنْ يُقِيمُوا بِالْحِجَازِ، أَوْ يَدْخُلُوا الْحَرَمَ، أَوْ يُظْهِرُوا الْخُمُورَ فِي دَارِنَا، أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ مِنْ الشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ، فَلَوْ أَتَى الْمُصَنِّفُ بِكَافِ التَّشْبِيهِ كَمَا فِي الْمُحَرَّرِ كَانَ أَوْلَى‏.‏ وَالْأَصْلُ فِي مَنْعِ مَا ذُكِرَ قَوْله تَعَالَى‏:‏ ‏{‏فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمْ الْأَعْلَوْنَ‏}‏ وَفِي اشْتِرَاطِ ذَلِكَ إهَانَةٌ يَنْبُو الْإِسْلَامُ عَنْهَا‏.‏ أَمَّا إذَا دَعَتْ الضَّرُورَةُ إلَى دَفْعِهِ بِأَنْ كَانُوا يُعَذِّبُونَ الْأَسْرَى فَفَدَيْنَاهُمْ، أَوْ أَحَاطُوا بِنَا وَخِفْنَا الِاصْطِلَامَ فَيَجُوزُ الدَّفْعُ، بَلْ يَجِبُ عَلَى الْأَصَحِّ فِي زَوَائِدِ الرَّوْضَةِ قَالَ الْإِسْنَوِيُّ‏:‏ وَتَصْحِيحُهُ وُجُوبُ الْبَذْلِ هُنَا مُخَالِفٌ لِقَوْلِهِ آخِرَ السِّيَرِ‏:‏ إنَّ فَكَّ الْأَسْرَى مُسْتَحَبٌّ‏.‏ انْتَهَى، وَحَمَلَ الْبُلْقِينِيُّ اسْتِحْبَابَ فَكِّ الْأَسْرَى عَلَى مَا إذَا لَمْ يُعَاقَبُوا، فَإِنْ عُوقِبُوا وَجَبَ، وَحَمَلَ الْغَزِّيُّ الِاسْتِحْبَابَ عَلَى الْآحَادِ، وَالْوُجُوبَ عَلَى الْإِمَامِ وَهَذَا أَوْلَى‏.‏

تَنْبِيهٌ‏:‏

إذَا عَقَدْنَا لَهُمْ عَلَى دَفْعِ مَالٍ إلَيْهِمْ عِنْدَ الضَّرُورَةِ هَلْ الْعَقْدُ صَحِيحٌ أَوْ لَا‏؟‏‏.‏ قَالَ الْأَذْرَعِيُّ‏:‏ عِبَارَةُ كَثِيرٍ تُفْهِمُ صِحَّتَهُ، وَهُوَ بَعِيدٌ، وَالظَّاهِرُ بُطْلَانُهُ، وَهُوَ قَضِيَّةُ كَلَامِ الْجُمْهُورِ انْتَهَى، وَلَا يَمْلِكُونَ مَا أُعْطِيَ لَهُمْ لِأَخْذِهِمْ لَهُ بِغَيْرِ حَقٍّ‏.‏

المتن‏:‏

وَتَصِحُّ الْهُدْنَةُ عَلَى أَنْ يَنْقُضَهَا الْإِمَامُ مَتَى شَاءَ‏.‏

الشَّرْحُ‏:‏

‏(‏وَتَصِحُّ الْهُدْنَةُ عَلَى أَنْ يَنْقُضَهَا الْإِمَامُ مَتَى شَاءَ‏)‏ لِخَبَرِ الْبُخَارِيِّ ‏{‏أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَادَعَ يَهُودَ خَيْبَرَ وَقَالَ‏:‏ أُقِرُّكُمْ مَا أَقَرَّكُمْ اللَّهُ‏}‏‏.‏ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ‏:‏ وَلَوْ قَالَ الْإِمَامُ الْآنَ هَذِهِ اللَّفْظَةَ لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعْلَمُ مَا عِنْدَ اللَّهِ بِالْوَحْيِ بِخِلَافِ غَيْرِهِ‏.‏

تَنْبِيهٌ‏:‏

لَا يَخْتَصُّ ذَلِكَ بِمَشِيئَةِ الْإِمَامِ، بَلْ لَوْ قَالَ مَتَى شَاءَ فُلَانٌ وَهُوَ مُسْلِمٌ عَدْلٌ ذُو رَأْيٍ صَحَّ أَيْضًا بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ مَا شَاءَ فُلَانٌ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ‏.‏ ‏.‏

فَصْل‏:‏ ‏[‏فِي أَحْكَامِ الْهُدْنَةِ‏]‏

المتن‏:‏

وَمَتَى صَحَّتْ وَجَبَ الْكَفُّ عَنْهُمْ حَتَّى تَنْقَضِيَ أَوْ يَنْقُضُوهَا بِتَصْرِيحٍ أَوْ قِتَالِنَا، أَوْ مُكَاتَبَةِ أَهْلِ الْحَرْبِ بِعَوْرَةٍ لَنَا، أَوْ قَتْلِ مُسْلِمٍ، وَإِذَا انْتَقَضَتْ جَازَتْ الْإِغَارَةُ عَلَيْهِمْ وَبَيَاتُهُمْ، وَلَوْ نَقَضَ بَعْضُهُمْ وَلَمْ يُنْكِرْ الْبَاقُونَ بِقَوْلٍ وَلَا فِعْلٍ انْتَقَضَ فِيهِمْ أَيْضًا، وَإِنْ أَنْكَرُوا بِاعْتِزَالِهِمْ أَوْ إعْلَامِ الْإِمَامِ بِبَقَائِهِمْ عَلَى الْعَهْدِ فَلَا، وَلَوْ خَافَ خِيَانَتَهُمْ فَلَهُ نَبْذُ عَهْدِهِمْ إلَيْهِمْ وَيُبْلِغُهُمْ الْمَأْمَنَ، وَلَا يُنْبَذُ عَقْدُ الذِّمَّةِ بِتُهَمَةٍ‏.‏

الشَّرْحُ‏:‏

ثُمَّ شَرَعَ فِي أَحْكَامِ الْهُدْنَةِ فَقَالَ ‏(‏وَمَتَى صَحَّتْ وَجَبَ‏)‏ عَلَى عَاقِدِهَا وَعَلَى مَنْ بَعْدَهُ مِنْ الْأَئِمَّةِ ‏(‏الْكَفُّ‏)‏ وَدَفْعُ الْأَذَى مِنْ مُسْلِمٍ أَوْ ذِمِّيٍّ ‏(‏عَنْهُمْ‏)‏ وَفَاءً بِالْعَهْدِ‏.‏ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا‏}‏ أَمَّا أَهْلُ الْحَرْبِ فَلَا يَلْزَمُنَا الْكَفُّ عَنْهُمْ وَلَا مَنْعُ بَعْضِهِمْ عَنْ بَعْضٍ؛ لِأَنَّ مَقْصُودَ الْهُدْنَةِ الْكَفُّ لَا الْحِفْظُ بِخِلَافِ الذِّمَّةِ‏.‏ نَعَمْ إنْ أَخَذَ الْحَرْبِيُّونَ مَالَهُمْ بِغَيْرِ حَقٍّ وَظَفِرْنَا بِهِ رَدَدْنَاهُ إلَيْهِمْ، وَإِنْ لَمْ يَلْزَمْنَا اسْتِنْقَاذُهُ وَيَسْتَمِرُّ ذَلِكَ ‏(‏حَتَّى تَنْقَضِيَ‏)‏ مُدَّتُهَا ‏(‏أَوْ يَنْقُضُوهَا‏)‏ أَوْ يَنْقُضَهَا الْإِمَامُ إذَا عُلِّقَتْ بِمَشِيئَتِهِ، وَكَذَا غَيْرُهُ إذَا عُلِّقَتْ بِمَشِيئَتِهِ‏.‏ قَالَ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ‏}‏ وَقَالَ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏فَأَتِمُّوا إلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إلَى مُدَّتِهِمْ‏}‏ وَنَقْضُهُمْ لَهَا يَكُونُ مَعَ مَا مَرَّ آنِفًا ‏(‏بِتَصْرِيحٍ‏)‏ مِنْهُمْ ‏(‏أَوْ قِتَالِنَا‏)‏ حَيْثُ لَا شُبْهَةَ لَهُمْ‏.‏ فَإِنْ كَانَ لَهُمْ شُبْهَةٌ كَأَنْ أَعَانُوا الْبُغَاةَ مُكْرَهِينَ فَلَا يُنْتَقَضُ كَمَا بَحَثَهُ الزَّرْكَشِيُّ ‏(‏أَوْ مُكَاتَبَةِ أَهْلِ الْحَرْبِ بِعَوْرَةٍ‏)‏ أَيْ خَلَلٍ ‏(‏لَنَا‏)‏ وَقَوْلُهُ ‏(‏أَوْ قَتْلِ مُسْلِمٍ‏)‏ يُفْهِمُ أَنَّهُ لَوْ قَتَلَ ذِمِّيًّا فِي دَارِنَا أَنَّ الْحُكْمَ يَخْتَلِفُ وَلَيْسَ مُرَادًا، وَلَا يَنْحَصِرُ الِانْتِقَاضُ فِيمَا ذَكَرَهُ، بَلْ تُنْتَقَضُ بِأَشْيَاءَ أُخَرَ، مِنْهَا لَوْ سَبُّوا اللَّهَ تَعَالَى أَوْ الْقُرْآنَ أَوْ رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكُلُّ مَا اُخْتُلِفَ فِي انْتِقَاضِ الذِّمَّةِ بِهِ تُنْتَقَضُ الْهُدْنَةُ جَزْمًا؛ لِأَنَّ الْهُدْنَةَ ضَعِيفَةٌ غَيْرُ مُتَأَكَّدَةٍ بِبَذْلِ الْجِزْيَةِ‏.‏

تَنْبِيهٌ‏:‏

أَفْهَمَ قَوْلُهُ صَحَتْ أَنَّهَا لَوْ كَانَتْ فَاسِدَةً لَا يَجِبُ الْكَفُّ عَنْهُمْ وَلَيْسَ مُرَادًا، بَلْ يَجِبُ إنْذَارُهُمْ وَإِعْلَامُهُمْ، وَلَا يَجُوزُ اغْتِيَالُهُمْ وَلَوْ رَأَى الْإِمَامُ الْعَقْدَ الثَّانِيَ فَاسِدًا، فَإِنْ كَانَ فَسَادٌ بِطَرِيقِ الِاجْتِهَادِ لَمْ يَفْسَخْهُ، وَإِنْ كَانَ بِنَصٍّ أَوْ إجْمَاعٍ فَسْخَهُ ‏(‏وَإِذَا انْتَقَضَتْ‏)‏ أَيْ الْهُدْنَةُ وَهُوَ بِبِلَادِهِمْ ‏(‏جَازَتْ الْإِغَارَةُ عَلَيْهِمْ وَبَيَاتُهُمْ‏)‏ بِفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ أَوَّلَهُ‏.‏ وَهُوَ الْإِغَارَةُ عَلَيْهِمْ لَيْلًا‏.‏ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ‏}‏ فَهُوَ مِنْ عَطْفِ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ، سَوَاءٌ أَعْلِمُوا أَنَّهُ نَاقِضٌ أَمْ لَا، لِقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ‏}‏ الْآيَةَ، وَلِأَنَّهُمْ صَارُوا حِينَئِذٍ كَمَا كَانُوا قَبْلَ الْهُدْنَةِ‏.‏ أَمَّا إذَا كَانُوا بِبِلَادِنَا فَلَا نُقَاتِلُهُمْ‏:‏ بَلْ نُبْلِغُهُمْ الْمَأْمَنَ كَمَا فِي الرَّوْضَةِ وَأَصْلِهَا ‏(‏وَلَوْ نَقَضَ بَعْضُهُمْ‏)‏ الْهُدْنَةَ بِشَيْءٍ مِمَّا مَرَّ ‏(‏وَلَمْ يُنْكِرْ الْبَاقُونَ‏)‏ عَلَيْهِمْ ‏(‏بِقَوْلٍ وَلَا فِعْلٍ‏)‏ بِأَنْ سَكَتُوا وَلَمْ يَعْتَزِلُوهُمْ ‏(‏انْتَقَضَ فِيهِمْ‏)‏ أَيْ الْبَاقِينَ ‏(‏أَيْضًا‏)‏؛ لِأَنَّ سُكُوتَهُمْ يُشْعِرُ بِالرِّضَا فَجُعِلَ نَقْضًا مِنْهُمْ كَمَا أَنَّ هُدْنَةَ الْبَعْضِ وَسُكُوتَ الْبَاقِينَ هُدْنَةٌ فِي حَقِّ الْكُلِّ، وَهَذَا بِخِلَافِ عَقْدِ الْجِزْيَةِ فَلَيْسَ نَقْضُهُ مِنْ بَعْضِهِمْ نَقْضًا مِنْ الْكُلِّ لِقُوَّتِهِ وَضَعْفِ الْهُدْنَةِ ‏(‏وَإِنْ أَنْكَرُوا بِاعْتِزَالِهِمْ‏)‏ عَنْهُمْ ‏(‏أَوْ إعْلَامِ الْإِمَامِ‏)‏ أَيْ إعْلَامِ الْبَعْضِ الْمُنْكَرِينَ الْإِمَامَ ‏(‏بِبَقَائِهِمْ عَلَى الْعَهْدِ، فَلَا‏)‏ يُنْتَقَضُ الْعَهْدُ فِي حَقِّهِمْ، وَإِنْ كَانَ النَّاقِضُ رَئِيسَهُمْ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنْ السُّوءِ‏}‏ فَإِنْ اقْتَصَرُوا عَلَى الْإِنْكَارِ مِنْ غَيْرِ اعْتِزَالٍ أَوْ إعْلَامِ الْإِمَامِ بِذَلِكَ فَنَاقِضُونَ بِخِلَافِ عَقْدِ الذِّمَّةِ وَإِنَّمَا أَتَى بِمِثَالَيْنِ؛ لِأَنَّ الْأَوَّلَ إنْكَارٌ فِعْلِيٌّ، وَالثَّانِي قَوْلِيٌّ، وَالْقَوْلُ قَوْلُ مُنْكَرِ النَّقْضِ بِيَمِينِهِ‏.‏ ‏(‏وَلَوْ خَافَ‏)‏ الْإِمَامُ ‏(‏خِيَانَتَهُمْ‏)‏ بِظُهُورِ أَمَارَةٍ تَدُلُّ عَلَى الْخَوْفِ لَا بِمُجَرَّدِ الْوَهْمِ ‏(‏فَلَهُ نَبْذُ عَهْدِهِمْ إلَيْهِمْ‏)‏ لِقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏ وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً‏}‏ الْآيَةَ‏.‏

تَنْبِيهٌ‏:‏

أَفْهَمَ كَلَامُ الْمُصَنِّفِ أَنَّهُ إذَا لَمْ يَخَفْ الْخِيَانَةَ لَا يَجُوزُ نَبْذُ عَهْدِهِمْ، وَمِنْهُ يُعْلَمُ أَنَّ عَقْدَهَا لَازِمٌ ‏(‏وَ‏)‏ يُنْذِرهُمْ بَعْدَ نَبْذِ عَهْدِهِمْ، وَ ‏(‏يُبْلِغُهُمْ‏)‏ وُجُوبًا ‏(‏الْمَأْمَنَ‏)‏ بَعْدَ اسْتِيفَاءِ مَا وَجَبَ عَلَيْهِمْ مِنْ الْحُقُوقِ وَفَاءً بِالْعَهْدِ، وَسَبَقَ تَفْسِيرُ الْمَأْمَنِ فِي الْبَابِ قَبْلَهُ ‏(‏وَلَا يُنْبَذُ عَقْدُ الذِّمَّةِ بِتُهَمَةٍ‏)‏ بِتَحْرِيكِ الْهَاءِ‏:‏ أَيْ بِمُجَرَّدِهَا عِنْدَ اسْتِشْعَارِ الْإِمَامِ خِيَانَتَهُمْ بِخِلَافِ الْهُدْنَةِ، وَفُرِّقَ بَيْنَهُمَا بِثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ‏.‏ الْأَوَّلُ‏:‏ أَنَّ فِي عَقْدِ الذِّمَّةِ يُغَلَّبُ جَانِبُهُمْ، وَلِهَذَا تَجِبُ الْإِجَابَةُ إلَيْهِ إذَا طَلَبُوا، وَفِي الْهُدْنَةِ يُغَلَّبُ جَانِبُنَا، وَلِهَذَا لَا تَجِبُ الْإِجَابَةُ‏.‏ الثَّانِي أَنَّ أَهْلَ الذِّمَّةِ فِي قَبْضَةِ الْإِمَامِ، وَإِذَا تَحَقَّقَتْ خِيَانَتُهُمْ أَمْكَنَهُ تَدَارُكهَا بِخِلَافِ أَهْلِ الْهُدْنَةِ‏.‏ الثَّالِثُ أَنَّ عَقْدَ الذِّمَّةِ آكَدُ؛ لِأَنَّهُ مُؤَبَّدٌ، وَلِأَنَّهُ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ‏.‏

المتن‏:‏

وَلَا يَجُوزُ شَرْطُ رَدِّ مُسْلِمَةٍ تَأْتِينَا مِنْهُمْ، فَإِنْ شُرِطَ فَسَدَ الشَّرْطُ وَكَذَا الْعَقْدُ فِي الْأَصَحِّ‏.‏

الشَّرْحُ‏:‏

‏(‏وَلَا يَجُوزُ‏)‏ فِي عَقْدِ الْهُدْنَةِ ‏(‏شَرْطُ رَدِّ مُسْلِمَةٍ تَأْتِينَا مِنْهُمْ‏)‏ وَإِنْ أَسْلَمَتْ عِنْدنَا، لِقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إلَى الْكُفَّارِ‏}‏ وَلِأَنَّهُ لَا يُؤْمَنُ أَنْ يُصِيبَهَا زَوْجُهَا الْكَافِرُ أَوْ تُزَوَّجَ بِكَافِرٍ، وَلِأَنَّهَا عَاجِزَةٌ عَنْ الْهَرَبِ مِنْهُمْ وَقَرِيبَةٌ مِنْ الِافْتِتَانِ لِنُقْصَانِ عَقْلِهَا وَقِلَّةِ مَعْرِفَتِهَا‏.‏

تَنْبِيهٌ‏:‏

لَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ الْحُرَّةِ وَالْأَمَةِ، وَبَحَثَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ أَنَّ الْخُنْثَى كَالْمَرْأَةِ، وَلَوْ أَسْقَطَ الْمُصَنِّفُ تَأْتِينَا لَكَانَ أَوْلَى؛ لِأَنَّ حُكْمَ مَنْ جَاءَتْ إلَيْنَا كَافِرَةً ثُمَّ أَسْلَمَتْ كَذَلِكَ كَمَا قَدَّرْتُهُ فِي كَلَامِهِ ‏(‏فَإِنْ شُرِطَ‏)‏ فِي عَقْدِ الْهُدْنَةِ رَدُّ الْمَرْأَةِ الْمَذْكُورَةِ ‏(‏فَسَدَ الشَّرْطُ‏)‏ قَطْعًا، سَوَاءٌ أَكَانَ لَهَا عَشِيرَةٌ أَمْ لَا؛ لِأَنَّهُ أَحَلَّ حَرَامًا ‏(‏وَكَذَا الْعَقْدُ فِي الْأَصَحِّ‏)‏ الْمَنْصُوصِ فِي الْأُمِّ لِفَسَادِ الشَّرْطِ‏.‏ وَالثَّانِي لَا؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِآكَدَ مِنْ النِّكَاحِ وَهُوَ لَا يَفْسُدُ بِالشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ‏.‏

تَنْبِيهٌ‏:‏

قَالَ ابْنُ شُهْبَةَ‏:‏ هَذَا هُوَ الْخِلَافُ الْمَارُّ فِي قَوْلِهِ‏:‏ وَكَذَا شَرْطٌ فَاسِدٌ عَلَى الصَّحِيحِ إلَّا أَنَّهُ ضَعَّفَهُ هُنَاكَ فَكَرَّرَ وَنَاقَضَ‏.‏ وَسَلِمَتْ الرَّوْضَةُ مِنْ هَذَا فَإِنَّهُ عَبَّرَ أَوَّلًا بِالصَّحِيحِ، ثُمَّ أَحَالَ ثَانِيًا عَلَيْهِ ا هـ‏.‏

وَأَجَابَ عَنْ ذَلِكَ الشَّارِحُ فَقَالَ‏:‏ وَأَشَارَ بِهِ‏:‏ أَيْ بِالتَّعْبِيرِ بِالْأَصَحِّ إلَى قُوَّةِ الْخِلَافِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ، وَعَبَّرَ فِي صُوَرٍ تَقَدَّمَتْ بِالصَّحِيحِ إشَارَةً إلَى ضَعْفِ الْخِلَافِ فِيهَا، فَلَا تَكْرَارَ وَلَا تَخَالُفَ ا هـ‏.‏

وَخَرَجَ بِالْمُسْلِمَةِ الْكَافِرَةُ، فَيَجُوزُ شَرْطُ رَدِّهَا‏.‏

المتن‏:‏

وَإِنْ شَرَطَ رَدَّ مَنْ جَاءَ مُسْلِمًا أَوْ لَمْ يَذْكُرْ رَدًّا فَجَاءَتْ امْرَأَةٌ لَمْ يَجِبْ دَفْعُ مَهْرٍ إلَى زَوْجِهَا فِي الْأَظْهَرِ‏.‏

الشَّرْحُ‏:‏

‏(‏وَإِنْ شَرَطَ‏)‏ الْإِمَامُ أَوْ نَائِبُهُ فِي عَقْدِ الْهُدْنَةِ لَهُمْ ‏(‏رَدَّ مَنْ جَاءَ‏)‏ مِنْهُمْ ‏(‏مُسْلِمًا‏)‏ إلَيْنَا ‏(‏أَوْ‏)‏ عَقَدَ، وَأَطْلَقَ بِأَنْ ‏(‏لَمْ يَذْكُرْ رَدًّا‏)‏ وَلَا عَدَمَهُ ‏(‏فَجَاءَتْ امْرَأَةٌ‏)‏ مُسْلِمَةٌ ‏(‏لَمْ يَجِبْ دَفْعُ مَهْرٍ‏)‏ بِارْتِفَاعِ نِكَاحِهَا بِإِسْلَامِهَا قَبْلَ الدُّخُولِ أَوْ بَعْدَهُ ‏(‏إلَى زَوْجِهَا فِي الْأَظْهَرِ‏)‏؛ لِأَنَّ الْبُضْعَ لَيْسَ بِمَالٍ حَتَّى يَشْمَلُهُ الْأَمَانُ، وَالثَّانِي، يَجِبُ عَلَى الْإِمَامِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَآتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا‏}‏‏:‏ أَيْ مِنْ الْمُهُورِ، وَالْأَمْرُ فِيهِ مُحْتَمِلٌ لِلْوُجُوبِ وَلِلنَّدْبِ الصَّادِقِ بِعَدَمِ الْوُجُوبِ الْمُوَافِقِ لِلْأَصْلِ، وَرَجَّحُوهُ عَلَى الْوُجُوبِ لَمَّا قَامِ عِنْدَهُمْ فِي ذَلِكَ، وَأَمَّا غُرْمُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَهْرَ، فَلِأَنَّهُ كَانَ قَدْ شَرَطَ لَهُمْ رَدَّ مَنْ جَاءَتْنَا مُسْلِمَةً‏.‏ ثُمَّ نُسِخَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إلَى الْكُفَّارِ‏}‏ فَغَرِمَ حِينَئِذٍ لِامْتِنَاعِ رَدِّهَا بَعْدَ شَرْطِهِ‏.‏

تَنْبِيهٌ‏:‏

إنَّمَا يُسْتَحَقُّ الْمَهْرُ إذَا أَوْجَبْنَاهُ بِتِسْعِ شُرُوطٍ جَمَعَهَا الْمَاوَرْدِيُّ، وَهِيَ مُفَرَّقَةٌ فِي كَلَامِ الرَّافِعِيِّ‏.‏ أَحَدُهَا أَنْ يَكُونَ الطَّالِبُ زَوْجَهَا، وَقَدْ أَشَارَ إلَيْهِ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ إلَى زَوْجِهَا‏.‏ الثَّانِي أَنْ يَكُونَ سَاقَ إلَيْهَا مَهْرَهَا‏.‏ الثَّالِثُ أَنْ تَكُونَ جَاءَتْ مُسْلِمَةً، أَوْ جَاءَتْ ذِمِّيَّةً ثُمَّ أَسْلَمَتْ‏.‏ الرَّابِعُ أَنْ تَكُونَ بَالِغَةً عَاقِلَةٌ‏.‏ الْخَامِسُ أَنْ تَكُونَ بَاقِيَةَ الْحَيَاةِ، فَلَوْ مَاتَتْ قَبْلَ طَلَبِهِ فَلَا‏.‏ السَّادِسُ أَنْ تَكُونَ بَاقِيَةً فِي الْعِدَّةِ، فَلَوْ كَانَ بَعْدَ انْقِضَائِهَا لَمْ يُدْفَعْ إلَيْهِ شَيْءٌ قَطْعًا، ذَكَرَهُ الرَّافِعِيُّ‏:‏ بَحْثًا، وَنَقَلَهُ الْبُلْقِينِيُّ‏:‏ عَنْ نَصِّ الْأُمِّ‏.‏ السَّابِعُ أَنْ تَكُونَ مُقِيمَةً عَلَى الْإِسْلَامِ، وَأَنْ يَكُونَ الزَّوْجُ مُقِيمًا عَلَى دِينِهِ لِيَكُونَ الْمَانِعُ مِنْهَا‏.‏ الثَّامِنُ أَنْ يَكُونَ مُقِيمًا عَلَى النِّكَاحِ، فَلَوْ خَالَعْنَا بَعْدَ الطَّلَبِ لَمْ يَسْقُطْ حَقُّهُ عَلَى ذَلِكَ الْقَوْلِ‏.‏ التَّاسِعُ أَنْ تَكُونَ جَاءَتْ إلَى بَلَدٍ فِيهِ الْإِمَامُ أَوْ نَائِبُهُ، وَإِلَّا فَعَلَى أَهْلِ الْبَلَدِ مَنْعُهَا حِسْبَةً، وَلَا يَغْرَمُونَ الْمَهْرَ وَلَا الْإِمَامُ نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْأُمِّ، وَاحْتَرَزَ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ وَلَمْ يَذْكُرْ رَدًّا عَمَّا إذَا شُرِطَ تَرْكُ الرَّدِّ، فَإِنَّهُ لَا غُرْمَ قَطْعًا‏.‏

المتن‏:‏

وَلَا يُرَدُّ صَبِيٌّ وَمَجْنُونٌ، وَكَذَا عَبْدٌ وَحُرٌّ لَا عَشِيرَةَ لَهُ عَلَى الْمَذْهَبِ‏.‏

الشَّرْحُ‏:‏

‏(‏وَلَا يُرَدُّ‏)‏ مَنْ جَاءَ مِنْهُمْ إلَيْنَا وَهُوَ ‏(‏صَبِيٌّ‏)‏ وَصَفَ الْإِسْلَامَ ذَكَرًا كَانَ أَوْ أُنْثَى، طَلَبَهُ أَبَوَاهُ الْكَافِرَانِ أَمْ لَا ‏(‏وَ‏)‏ لَا يُرَدُّ مَنْ جَاءَ مِنْهُمْ إلَيْنَا وَهُوَ ‏(‏مَجْنُونٌ‏)‏ بَالِغٌ ذَكَرًا كَانَ أَوْ أُنْثَى، طَرَأَ جُنُونُهُ بَعْدَ بُلُوغِهِ، مُشْرِكًا أَمْ لَا لِضَعْفِهِمَا كَالنِّسَاءِ، وَلَا يَجُوزُ الصُّلْحُ بِشَرْطِ رَدِّهِمَا‏.‏ فَإِنْ قِيلَ قَدْ رَجَّحَا فِي بَابِ اللَّقِيطِ أَنَّ الْحَيْلُولَةَ بَيْنَ الصَّبِيِّ إذَا أَسْلَمَ وَبَيْنَ أَهْلِهِ مُسْتَحَبَّةٌ وَاجِبَةٌ‏.‏ أُجِيبَ بِأَنَّ الْكَلَامَ هُنَاكَ مَحْمُولٌ عَلَى مَا إذَا كَانُوا فِي دَارِنَا، وَالْكَلَامُ هُنَا فِي جَوَازِ رَدِّهِ إلَى الْكُفْرِ، فَإِنَّهُمْ يَتَمَكَّنُونَ مِنْ اسْتِمَالَتِهِ وَرَدِّهِ إلَى الْكُفْرِ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانُوا مُقِيمِينَ عِنْدنَا، فَإِنَّهُمْ لَا يَتَمَكَّنُونَ مِنْ ذَلِكَ‏.‏ فَإِنْ بَلَغَ الصَّبِيُّ وَأَفَاقَ الْمَجْنُونُ‏.‏ ثُمَّ وَصَفَا الْكُفْرَ رُدَّا، وَكَذَا إنْ لَمْ يَصِفَا شَيْئًا كَمَا بَحَثَهُ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ، وَإِنْ وَصَفَا الْإِسْلَامَ لَمْ يَرُدَّا كَمَا لَوْ كَانَ الْجُنُونُ بَعْدَ الْإِسْلَامِ، أَوْ وَقَعَ الْإِسْلَامُ بَعْدَ الْإِفَاقَةِ مِنْ الْجُنُونِ، وَلَوْ شَكَكْنَا فِي أَنَّهُ أَسْلَمَ قَبْلَ جُنُونِهِ أَوْ بَعْدَهُ لَمْ يُرَدَّ أَيْضًا ‏(‏وَكَذَا‏)‏ لَا يُرَدُّ ‏(‏عَبْدٌ‏)‏ مُسْلِمٌ بَالِغٌ عَاقِلٌ ‏(‏وَ‏)‏ كَذَا لَا يُرَدُّ ‏(‏حُرٌّ لَا عَشِيرَةَ لَهُ عَلَى الْمَذْهَبِ‏)‏؛ لِأَنَّهُ يُسْتَذَلُّ عِنْدَهُمْ كَالْعَبْدِ، وَقِيلَ يُرَدَّانِ لِقُوَّتِهِمَا بِالنِّسْبَةِ إلَى غَيْرِهِمَا، وَقَطَعَ بَعْضُهُمْ بِالرَّدِّ فِي الْحُرِّ، وَالْجُمْهُورُ بِعَدَمِهِ فِي الْعَبْدِ‏.‏ أَمَّا الْأَمَةُ الْمُسْلِمَةُ وَلَوْ مُكَاتَبَةً وَمُسْتَوْلَدَةً فَلَا تُرَدُّ قَطْعًا‏.‏ ‏.‏

المتن‏:‏

وَيُرَدُّ مَنْ لَهُ عَشِيرَةٌ طَلَبَتْهُ إلَيْهَا لَا إلَى غَيْرِهَا إلَّا أَنْ يَقْدِرَ الْمَطْلُوبُ عَلَى قَهْرِ الطَّالِبِ وَالْهَرَبِ مِنْهُ، وَمَعْنَى الرَّدِّ‏:‏ أَنْ يُخْلَى بَيْنَهُ وَبَيْنَ طَالِبِهِ، وَلَا يُجْبَرُ عَلَى الرُّجُوعِ، وَلَا يَلْزَمُهُ الرُّجُوعُ، وَلَهُ قَتْلُ الطَّالِبِ، وَلَنَا التَّعْرِيضُ لَهُ بِهِ لَا التَّصْرِيحُ‏.‏

الشَّرْحُ‏:‏

تَنْبِيهٌ‏:‏

لَوْ هَاجَرَ قَبْلَ الْهُدْنَةِ أَوْ بَعْدَهَا عَبْدٌ أَوْ أَمَةٌ، وَلَوْ مُسْتَوْلَدَةً وَمُكَاتَبَةً ثُمَّ أَسْلَمَ كُلٌّ مِنْهُمَا عَتَقَ؛ لِأَنَّهُ إذَا جَاءَ قَاهِرًا لِسَيِّدِهِ مَلَكَ نَفْسَهُ بِالْقَهْرِ فَيَعْتِقُ، وَلِأَنَّ الْهُدْنَةَ لَا تُوجِبُ أَمَانَ بَعْضِهِمْ مِنْ بَعْضٍ، فَبِالِاسْتِيلَاءِ عَلَى نَفْسِهِ مَلَكَهَا، وَيَعْتِقُ أَيْضًا إذَا أَسْلَمَ ثُمَّ هَاجَرَ قَبْلَ الْهُدْنَةِ لِوُقُوعِ قَهْرِهِ حَالَ الْإِبَاحَةِ، بِخِلَافِ مَا لَوْ أَسْلَمَ بَعْدَهَا فَلَا يَعْتِقُ؛ لِأَنَّ أَمْوَالَهُمْ مَحْظُورَةٌ حِينَئِذٍ فَلَا يَمْلِكُهَا الْمُسْلِمُ بِالِاسْتِيلَاءِ، وَلَكِنْ لَا يُرَدُّ إلَى سَيِّدِهِ؛ لِأَنَّهُ جَاءَ مُسْلِمًا مُرَاغِمًا لَهُ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يَسْتَرِقُّهُ وَيُهِينُهُ وَلَا عَشِيرَةَ لَهُ تَحْمِيهِ‏:‏ بَلْ يُعْتِقُهُ السَّيِّدُ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ بَاعَهُ الْإِمَامُ عَلَيْهِ لِمُسْلِمٍ أَوْ دَفَعَ قِيمَتَهُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ وَأَعْتَقَهُ عَنْ الْمُسْلِمِينَ وَلَهُمْ وَلَاؤُهُ، وَكَالْمُهَاجَرَةِ الْهَرَبُ إلَى الْمَأْمَنِ، وَإِنَّمَا ذَكَرُوا هِجْرَتَهُ؛ لِأَنَّ بِهَا يُعْلَمُ عِتْقُهُ غَالِبًا‏.‏ وَأَمَّا الْمُكَاتَبَةُ فَتَبْقَى مُكَاتَبَةً إنْ لَمْ تُعْتَقْ، فَإِنْ أَدَّتْ نُجُومَ الْكِتَابَةِ عَتَقَتْ بِهَا وَوَلَاؤُهَا لِسَيِّدِهَا، وَإِنْ عَجَزَتْ وَرَقَّتْ وَقَدْ أَدَّتْ شَيْئًا مِنْ النُّجُومِ بَعْدَ الْإِسْلَامِ لَا قَبْلَهُ حَسَبَ مَا أَدَّتْهُ مِنْ قِيمَتِهَا، فَإِنْ وَفِيَ بِهَا أَوْ زَادَ عَلَيْهَا عَتَقَتْ؛ لِأَنَّهُ اسْتَوْفَى حَقَّهُ وَوَلَاؤُهَا لِلْمُسْلِمِينَ، وَلَا يَسْتَرْجِعُ مِنْ سَيِّدِهَا الزَّائِدُ، وَإِنْ نَقَصَ عَنْهَا وُفِّيَ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ ‏(‏وَيُرَدُّ مَنْ‏)‏ أَيْ حُرٌّ ‏(‏لَهُ عَشِيرَةٌ طَلَبَتْهُ‏)‏ أَنْ يُرَدَّ ‏(‏إلَيْهَا‏)‏؛ لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ‏{‏رَدَّ أَبَا جَنْدَلٍ عَلَى أَبِيهِ سُهَيْلِ بْنِ عَمْرٍو‏}‏، كَمَا رَوَاهُ الشَّيْخَانِ‏:‏ وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّهُمْ يَذُبُّونَ عَنْهُ وَيَحْمُونَهُ‏.‏

تَنْبِيهٌ‏:‏

هَلْ الِاعْتِبَارُ فِي الطَّلَبِ بِحُضُورِ الْعَشِيرَةِ أَوْ وَاحِدٍ مِنْهُمْ، أَوْ يَكْفِي بَعْثُ رَسُولِهِمْ إذَا غَلَبَ عَلَى الظَّنِّ صِدْقُهُ‏؟‏ قَالَ الزَّرْكَشِيُّ‏:‏ لَمْ يَتَعَرَّضُوا لَهُ، وَالظَّاهِرُ الثَّانِي‏.‏ قَالَ‏:‏ وَإِذَا شُرِطَ رَدُّ مَنْ لَهُ عَشِيرَةٌ تَحْمِيهِ كَانَ الشَّرْطُ جَائِزًا، صَرَّحَ بِهِ الْعِرَاقِيُّونَ وَغَيْرُهُمْ‏.‏ قَالَ الْبَنْدَنِيجِيُّ‏:‏ وَالضَّابِطُ أَنَّ كُلَّ مَنْ لَوْ أَسْلَمَ فِي دَارِ الْحَرْبِ لَمْ تَجِبْ عَلَيْهِ الْهِجْرَةُ يَجُوزُ شَرْطُ رَدِّهِ فِي عَقْدِ الْهُدْنَةِ‏.‏ قَالَ ابْنُ شُهْبَةَ‏:‏ وَهُوَ ضَابِطٌ حَسَنٌ وَ ‏(‏لَا‏)‏ يَجُوزُ رَدُّهُ ‏(‏إلَى غَيْرِهَا‏)‏ أَيْ عَشِيرَتِهِ إذَا طَلَبَهُ ذَلِكَ الْغَيْرُ؛ لِأَنَّهُمْ يُؤْذُونَهُ ‏(‏إلَّا أَنْ يَقْدِرَ الْمَطْلُوبُ عَلَى قَهْرِ الطَّالِبِ‏)‏ لَهُ ‏(‏وَالْهَرَبِ مِنْهُ‏)‏ فَيُرَدُّ إلَيْهِ حِينَئِذٍ، وَعَلَيْهِ حُمِلَ رَدُّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبَا بَصِيرٍ لَمَّا جَاءَ فِي طَلَبِهِ رَجُلَانِ فَقَتَلَ أَحَدَهُمَا فِي الطَّرِيقِ وَأَفْلَتَ الْآخَرُ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ أَمَّا إذَا لَمْ يَطْلُبْ أَحَدٌ فَلَا يُرَدُّ، أَوْ لَمْ يُشْتَرَطْ فَلَا يَجِبُ الرَّدُّ مُطْلَقًا ‏(‏وَمَعْنَى الرَّدِّ‏:‏ أَنْ يُخَلَّى بَيْنَهُ‏)‏ أَيْ الْمَطْلُوبِ ‏(‏وَبَيْنَ طَالِبِهِ‏)‏ عَمَلًا بِقَضِيَّةِ الشَّرْطِ، وَلَا تَبْعُدُ تَسْمِيَةُ التَّخْلِيَةِ رَدًّا كَمَا فِي الْوَدِيعَةِ ‏(‏وَلَا يُجْبَرُ‏)‏ الْمَطْلُوبُ ‏(‏عَلَى الرُّجُوعِ‏)‏ إلَى طَالِبِهِ؛ لِأَنَّ إجْبَارَ الْمُسْلِمِ عَلَى الْإِقَامَةِ بِدَارِ الْحَرْبِ لَا يَجُوزُ، وَعَلَى هَذَا حُمِلَ رَدُّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبَا بَصِيرٍ وَأَبَا جَنْدَلٍ ‏(‏وَلَا يَلْزَمُهُ‏)‏ أَيْ الْمَطْلُوبَ ‏(‏الرُّجُوعُ‏)‏ إلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْعَهْدَ لَمْ يَجُزْ مَعَهُ، وَلِهَذَا لَمْ يُنْكِرْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ امْتِنَاعَهُ وَلَا قَتَلَهُ طَالِبَهُ بَلْ سَرَّهُ مَا فَعَلَ، وَلَوْ كَانَ وَاجِبًا لَأَمَرَهُ بِالرُّجُوعِ إلَى مَكَّةَ ‏(‏وَلَهُ قَتْلُ الطَّالِبِ‏)‏ دَفْعًا عَنْ نَفْسِهِ وَدِينِهِ لِقِصَّةِ أَبِي بَصِيرٍ ‏(‏وَلَنَا‏)‏ هُوَ صَادِقٌ بِالْإِمَامِ وَبِآحَادِ الْمُسْلِمِينَ ‏(‏التَّعْرِيضُ لَهُ بِهِ‏)‏ أَيْ الْمَطْلُوبِ بِقَتْلِ طَالِبِهِ؛ لِأَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ لِأَبِي جَنْدَلٍ حِينَ رُدَّ إلَى أَبِيهِ‏:‏ اصْبِرْ أَبَا جَنْدَلٍ فَإِنَّمَا هُمْ الْمُشْرِكُونَ، وَإِنَّمَا دَمُ أَحَدِهِمْ كَدَمِ كَلْبٍ يُعَرِّضُ لَهُ بِقَتْلِ أَبِيهِ كَمَا رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ وَالْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ ‏(‏لَا التَّصْرِيحُ‏)‏ لَهُ بِهِ فَلَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُمْ فِي أَمَانٍ‏.‏ نَعَمْ لَوْ أَسْلَمَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ بَعْدَ عَقْدِ الْهُدْنَةِ لَهُ أَنْ يُصَرِّحَ بِذَلِكَ كَمَا يَقْتَضِيهِ كَلَامُهُمْ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَشْتَرِطْ عَلَى نَفْسِهِ أَمَانًا لَهُمْ وَلَا تَنَاوَلَهُ شَرْطُ الْإِمَامِ قَالَهُ الزَّرْكَشِيُّ‏.‏

المتن‏:‏

وَلَوْ شَرَطَ أَنْ يَرُدُّوا مَنْ جَاءَهُمْ مُرْتَدًّا مِنَّا‏:‏ لَزِمَهُمْ الْوَفَاءُ فَإِنْ أَبَوْا فَقَدْ نَقَضُوا، وَالْأَظْهَرُ جَوَازُ شَرْطِ أَنْ لَا يَرُدُّوا‏.‏

الشَّرْحُ‏:‏

‏(‏وَلَوْ شَرَطَ‏)‏ عَلَيْهِمْ فِي الْهُدْنَةِ ‏(‏أَنْ يَرُدُّوا مَنْ جَاءَهُمْ مُرْتَدًّا مِنَّا‏)‏ رَجُلًا كَانَ أَوْ امْرَأَةً حُرًّا أَوْ رَقِيقًا ‏(‏لَزِمَهُمْ الْوَفَاءُ‏)‏ بِالشَّرْطِ عَمَلًا بِالْتِزَامِهِمْ‏.‏ فَإِنْ امْتَنَعُوا مِنْ رَدِّهِ فَنَاقِضُونَ لِلْعَهْدِ لِمُخَالَفَتِهِمْ الشَّرْطَ ‏(‏وَالْأَظْهَرُ جَوَازُ شَرْطِ أَنْ لَا يَرُدُّوا‏)‏ وَلَوْ كَانَ الْمُرْتَدُّ امْرَأَةً، فَلَا يَلْزَمُهُمْ رَدُّهُ لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ‏{‏شَرَطَ ذَلِكَ فِي مُهَادَنَةِ قُرَيْشٍ، حَيْثُ قَالَ لِسُهَيْلِ بْنِ عَمْرٍو، وَقَدْ جَاءَ رَسُولًا مِنْهُمْ مَنْ جَاءَنَا مِنْكُمْ مُسْلِمًا رَدَدْنَاهُ، وَمَنْ جَاءَكُمْ مِنَّا فَسُحْقًا سُحْقًا‏}‏ وَلَكِنْ يَغْرَمُونَ مَهْرَ الْمُرْتَدَّةِ‏.‏ فَإِنْ قِيلَ لِمَ غَرِمُوا وَلَمْ نَغْرَمْ نَحْنُ مَهْرَ الْمُسْلِمَةِ‏؟‏‏.‏ أُجِيبَ بِأَنَّهُمْ فَوَّتُوا عَلَيْنَا الِاسْتِتَابَةَ الْوَاجِبَةَ عَلَيْنَا، وَأَيْضًا الْمَانِعُ جَاءَ مِنْ جِهَتِهَا وَالزَّوْجُ غَيْرُ مُتَمَكِّنٍ مِنْهَا، بِخِلَافِ الْمُسْلِمَةِ، الزَّوْجُ مُتَمَكِّنٌ مِنْهَا بِالْإِسْلَامِ‏.‏

خَاتِمَةٌ‏:‏

يَغْرَمُونَ أَيْضًا قِيمَةَ رَقِيقٍ ارْتَدَّ دُونَ الْحُرِّ‏.‏ فَإِنْ عَادَ الرَّقِيقُ الْمُرْتَدُّ إلَيْنَا بَعْدَ أَخْذِنَا قِيمَتَهُ رَدَدْنَاهَا عَلَيْهِمْ بِخِلَافِ نَظِيرِهِ فِي الْمَهْرِ‏.‏ قَالَ فِي أَصْلِ الرَّوْضَةِ‏:‏ لِأَنَّ الرَّقِيقَ بِدَفْعِ الْقِيمَةِ يَصِيرُ مِلْكًا لَهُمْ، وَالنِّسَاءَ لَا يَصِرْنَ زَوْجَاتٍ، فَإِنْ قِيلَ‏:‏ هَذَا إنَّمَا يَأْتِي عَلَى قَوْلِنَا بِصِحَّةِ بَيْعِ الْمُرْتَدِّ لِلْكَافِرِ، وَالْأَصَحُّ خِلَافُهُ‏.‏ أُجِيبَ بِأَنَّ هَذَا لَيْسَ بِبَيْعٍ حَقِيقَةً، وَاغْتُفِرَ ذَلِكَ لِأَجْلِ الْمَصْلَحَةِ فَلَيْسَ مُفَرَّعًا عَلَى الْقَوْلِ بِصِحَّةِ بَيْعِهِ‏.‏ قَالَ فِي أَصْلِ الرَّوْضَةِ‏:‏ وَيَغْرَمُ الْإِمَامُ لِزَوْجِ الْمُرْتَدَّةِ مَا أُنْفِقَ مِنْ صَدَاقِهَا؛ لِأَنَّا بِعَقْدِ الْهُدْنَةِ خَلَّيْنَا بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا وَلَوْلَاهُ لَقَاتَلْنَاهُمْ حَتَّى يَرُدُّوهَا ا هـ‏.‏

وَيُشْبِهُ كَمَا قَالَ شَيْخُنَا‏:‏ أَنْ يَكُونَ الْغُرْمُ لِزَوْجِهَا مُفَرَّعًا عَلَى الْغُرْمِ لِزَوْجِ الْمُسْلِمَةِ الْمُهَاجِرَةِ‏.‏ قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ‏:‏ وَيَجُوزُ شِرَاءُ أَوْلَادِ الْمُهَادَنِينَ مِنْهُمْ لَا سَبْيُهُمْ‏.‏